يتصارع كل منا للبقاء على قيد الحياة مهما كان الثمن باهظاً ومهما كلفه الأمر، ويتضح ذلك جليا في الخوف من فكرة الموت أو حتى طرح الفكرة أو تخيلها في أذهان وعقول البشرية جمعاء ، ومن هنا تتساوى جميع الكائنات الحية الأخرى في فكرة حب البقاء ورفض الموت رفضاً قاطعاً والذعر من كل أسبابه بشتى الوسائل التي قد تفضي اليه ، بل ويصل الأمر الى أبعد من ذلك حينما تسيطر الفكرة القاتمة على إنسان مريض متهالك لاحيلة في شفائه ، فنراه يسلك جميع مقومات التعافي من كل حدب ونصب حتى لو كانت معاناة مريرة من أجل البقاء على قيد الحياة.
يستهل الأديب العالمي ماركيز روايته الواقعية المستمدة من أحداث عاصرها بالفعل في مسقط رأسه كولومبيا عن فكرة إنتظاروترقب الموت من خلال أحداث جريمة قتل أحد الأشخاص وذلك لإرتكابه وقيعة شنعاء مع أحد نساء المدينة وسط محيط عائلي يفترض أن يحمل معاني عديدة للإلتزام والإنضباط والترابط الأسري ، ومع مرور الأحداث التي تبدأ في الساعة الثالثة فجراً وتنتهي في تمام التاسعة صباحاً وهي الفترة الزمنية لكل أحداث الرواية ،يدور بنا جابرييل ماركيز في فكرة غريبة قلما أن نجد من يتحدث عنها بهذه البراعة والتمكن ، فكرة إنتظار الموت المعلن حيث يعلم العديد من أهالي وجيران المدينة بالمؤامرة المدبرة لقتل هذا الشخص والذي يدعى " نصار سانتياغو" من أصول عربية ورغم أن بعض الأهالي جيران لهذا الشخص وبحكم المعرفة السطحية مع بعضهم ، علاوة على تداول الهمسات الخفية بين أعين الناس وتمتمات ألسنتهم ، إلا أن احدا منهم لايجرؤ على البوح مباشرة بتفاصيل الجريمة المدبرة له ،وكأن الكاتب يريد أن يصل بنا إلى فكرة أن يكون الموت والخلاص واضحين أمامك لكنك لاتنجو ، أو محاولة يائسة لتعزيز فكرة أن الموت مرحلة متقدمة من مراحل الحياة الجديدة في عالم آخر.
تقف المصادفات الكثيرة عائقاً دون أدنى احتمال لنجاة هذا الشخص وكأن الموت يشتهيه دون غيره ،رغم فرضية قائمة لتبرئته من التهمة الشنيعة المنسوبة إليه ، فكيف يمكن للحياة أن تستفيد من مصادفات كثيرة محظورة لتتم دون أي عرقلة عملية موت معلن إلى هذا الحد ؟
شخصية محورية أخرى بين صفحات الرواية " انخيلا" الزوجة التي يكتشف زوجها " رومان" ليلة زفافها بأنها ليست عذراء ويذهب بها منتصف الليل إلى بيت أهلها منفجراً صاخباً أمام والدتها التي لاتتوانى في ضربها وتعنيفها بأبشع الكلمات والألفاظ ، ولكنها رغم ذلك الضرب العنيف المفضي إلى الموت تبقى على قيد الحياة وكأن الموت يعزف عنها ، مستندة إلى أكذوبة مختلقة بإتهام الشاب الثري " نصار سانتياجو" بهذه الفعلة الشنيعة ، ويذيع أخواها التوأمان نواياهما أمام أكثر من إثنا عشر شخصا بضرورة تقصي الجاني " نصار سانتياجو" والثأر لشرف أختهم المصون ، ليشيع الخبر وينتقل بين ألسنة الناس حتى يصل إلى البيت المجاور والملاصق لبيت نصار ويتوقف هناك زون تقدم ، والآن يعرف أهل المدينة أن الشاب نصار يقترب من نهايته باستثنائه هو نفسه.
تُرى كيف يثأر التوأمان لأختهم " أنخيلا" وقد هزت الحادثة أرجاء المدينة ؟ وهل كان من الممكن أن ينجوالشاب "نصار" من التهمة الموجة إليه وقد ملأ المكان خبر الإعداد لتنفيذ جريمة القتل بأبشع صورها؟ وهل يعود الزوجان إلى بعضهما حيث ظلت الزوجة تراسل زوجها على مدار سبعة عشر عاماً ؟ ولماذا ينأى الموت عن مستحقيه ؟
الرواية متوسطة الحجم في مائة وخمسة وعشرون صفحة ورغم قلة عدد صفحاتها - بخلاف معظم روايات ماركييز التي تتميز بالإسهاب المفرط – إلا أن الأحداث مشوقة جدا والسرد بسيط في متناول القارئ العادي.
أترك لكم بعض المقتطفات بين ثنايا الرواية ومنها " لم يكونا متشوقين لتنفيذ جريمة القتل وإفتضاح الأمر بقدر تشوقهما للعثور على من يعمل لهما معروف بمنعهما من ذلك" فالمتهم "نصار" سليل أسرة ثرية وعريقة وكان هذا سبباً لإدعاء الزوجة الخائنة بإلقاء التهمة عليه ظنا منها بصعوبة وصول أخواها التوأمين لهذا الرجل.
مقولة أخرى أعجبتني في سطور الرواية والتي تصف على -وجه العموم- نساء المدينة الفاضلات بأرقى معاني الكلام مستنكرة الحدث الجلل الذي لايعبر عن كافة طبقاتهن ، واللاتي تميزن بتحلي الحشمة والأدب ومراعاة الظروف وتحمل المتاعب والمشاق وإحترام الرجل وتقديره وذلك عندما وصفهن ماركيز بعبقرية قائلاً "إنهن نساء كاملات فاضلات ، وأي رجل سيكون سعيداً معهن ، لأنهن تربين ليتألمن".
التعليقات