• لا يخلو بيت عربي من أب يتصور أنه يحمي أولاده من الخطأ لكنه من دون أن يدري يفرض وصايته عليهم !
• تكريس صورة الأب «الحاكم بأمره» و«الديكتاتور» فيه تجن صارخ وإنكار للدور الأخلاقي الذي يؤديه
• العمل لم يكن في حاجة إلى أجواء التصالح والتسامح والغفران التي خيمت على الأحداث في الحلقات الأخيرة
عقلية البيزنس مان
في هدوء عُرض، وفي صمت رحل .. هكذا حال مسلسل «مين قال؟»، الذي يبدو أن أصحابه آمنوا بالمثل الشعبي «يا بخت من زار وخفف»؛ عندما أخذوا على كاهلهم ألا تزيد حلقاته عن 15 فقط، وخاطبوا، من خلاله، شريحة قلما تحظى باهتمام الكتاب والمخرجين والمنتجين، وهي شريحة الشباب. والأهم أنهم تناولوا قضايا كبيرة؛ مثل : «الديكتاتورية»، «الحرية»، «التبعية» و«صدام الأجيال والأفكار والثقافات»، بسلاسة، وحيوية، وابتعاد عن الخطابة والمباشرة !
اختار قيادة الدراجة البخارية
منذ البداية يُحدد العمل موقفه، ورسالته، من خلال أغنية «التتر»، التي كتبها ولحنها وأداها «شاهين»، وتخاطب جيل الشباب، بنغمة وإيقاع ولغة، يعرفها، ويفهمها، وتقول، في بعض مقاطعها، وكأنها تُدافع عن جيل الشباب، وتُطالب باعطائه الفرصة، في مواجهة الإتهامات الدائمة بأنه أرعن، طائش ومخبول، فتقول : «مخي مش طاقق.. لا ده موزون .. كل محطة مخطط ليها لون .. ذهني حاضر وجاتلي فكرة فسيبوني أشوط يمكن تيجي جون». وفي مقطع ثان ترد الأغنية الضربة للمتعالين، وتتحداهم : «انتوا لسه شغالين نصايح وتنظير .. بكره تعرفوا هابقى مين». ثم تضع يدها على سبب الصدام بين الأطراف : «مين قال لازم أبقى تابع ليك .. مين قال لازم الطريقة دي .. ليه مش الطريقة دي أو الطريقة دي». وأخيراً تؤكد على روح التحدي، والاستقلالية، وعدم اليأس، وأهمية استثمار الفرصة قبل فوات الأوان : «خدت شلاليط و100 لطشة لكن المغامرة 101 كانت طفرة، فمتقوليش ان أنت أدرى .. متهاودنيش وتقولي دي فترة .. فيه حاجات مش هأقدر أجربها لما أكبر .. ومش هأعرف أرجع لتاريخ النهارده» .
علاقة صداقة متبادلة
شباب يرفض الوصاية
هوة شاسعة بين الطرفين
تحية واجبة
هنا وجب علينا توجيه التحية للمنتجين عبد الله ابو الفتوح ومحمد عبد الصمد، كونهما تحمسا لتمويل مشروع هو مغامرة، بمعنى الكلمة؛ سواء من حيث القضية غير المطروقة، بهذا الشكل (ورشة سرد تحت إشراف مريم نعوم)، أو فكرة وسيناريو مجدي أمين، الذي كتب الحلقات مع منى الشيمي، بينما شارك في الكتابة عبد العزيز النجار، ثم التطوير مصطفى سليمان، أو على صعيد الوجوه الجديدة (إلهام صفي الدين، مروان وليد، أميرة أديب، يوسف جبريل، ترنيم هاني، هنا داوود، ديانا هشام ويوسف مصيلحي)، التي تقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، ونزعة التجديد، والابتكار، التي امتلكتها، ببراعة وحرفية، المخرجة الشابة نادين خان؛ فإضافة إلى تمردها على الاختيارات التقليدية، والمُستهلكة، لأبطال الحلقات، وإدراكها أن الوجوه الشبابية أكثر مصداقية، في مخاطبة الجمهور المُستهدف من جيل الشباب، والتعبير عن مشاكلهم الواقعية، وهو ما انطبق على اختيارها للعناصر الفنية؛ من تصوير (طارق حفني) وديكور (عاصم علي) ومونتاج (كمال الملاخ) وموسيقى تصويرية (مصطفى الحلواني) وملابس (نيرة الدهشوري)، تُبهرك «نادين» بصورتها التي تتدفق بالحيوية، ومواقع التصوير، التي تضع أيدينا على «قاهرة» لا نكاد نعرفها، والروح الشبابية، التي تفرض نفسها على الحلقات، واقتراب القضايا، والمشكلات، من الواقع، بشكل يوحي للمشاهد أن ما يراه على الشاشة الصغيرة، هو صورة طبق الأصل مما يدور في بيوت مصرية، وربما عربية، كثيرة؛ فلا أظن أن هناك بيتاً يخلو من أب، مثل «جلال» (جمال سليمان) خُيل إليه أنه يحمي ابنه «شريف» (أحمد داش) من الخطأ، وعدم القدرة على اختيار القرار المناسب، لأنه «عيل»، فما كان منه سوى أن وضع أنفه في كل شيء، ومارس ضغوطاً شتى عليه، كالتنصت على شئونه، واقتحام خصوصيته، وتجريده من استقلاليته في اتخاذ قراره، ومحو شخصيته، وفرض «الوصاية» عليه، ومن ثم تحول الأب إلى «ديكتاتور»، و«حاكم بأمره»، و«طاغية». ومن الخطأ أن يتصور أحد أن الصدام كان محصوراً في بيت «شريف» فقط، فالواقع أن له صداه في بيوتات كثيرة؛ كما حدث مع «صلاح» (مروان وليد)، الذي فقد الثقة في نفسه، نتيجة معاملة أبيه (أيمن الشيوي) القاسية، و«فريدة» (هنا داوود)، التي تزوج والدها، عقب وفاة أمها، وعاشت مع جدتها (إيفا)، وصارت عصبية بشكل لا يُطاق. أما لاعب الكرة «عمرو» (يوسف مصيلحي) فيشعر أن والده (محمد لطفي شاهين) يُحاصره،، ويُقيد حريته، بينما تكمن عقدة «زينة» (إلهام صفي الدين) في جمال أمها (هبة الأباصيري)، بما يجعلها في موضع مقارنة لا تصب، أبداً، في صالحها. لكن المُثير أن الحلقات مرت مرور الكرام على الأبطال، الذين تنعم أسرهم بالاستقرار؛ مثل : «سلمى» (أميرة أديب)، التي ترك لها والدها (مجدي بدر) حرية الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، وعائلة «أكرم» (يوسف جبريل)، التي جعلت منه طالباً متفوقاً، وكذلك الحال مع «كارين» (ترنيم هاني)، وكان الأحرى بالسيناريو أن يُظهر، على الأقل ومن دون ثرثرة أو انحراف عن مسار القضية الرئيسة للفيلم : لماذا صاروا أسوياء !
في المكان الخطأ
الأب الديكتاتور
التبعية .. والحرية
نجحت الحلقات في تقديم صورة واقعية لما يتردد على لسان الآباء، في مواجهتهم للأبناء، وحرصهم على أن يكون الأبناء صورة منهم، في أفكارهم، وشخصياتهم، وتلقينهم مباديء الطاعة والإذعان («تسمع اللي يتقالك عليه وبس»)، وتجاوزهم، أحياناً، في حق الأبناء («عيل تافه وفاشل»)، والتقريع في كل مناسبة («علمتك وكبرتك»)، الأمر الذي يضطر الأبناء إلى الكذب أحياناً، كما يُرسخ لديهم يقين أن ثمة «معايرة» في الأمر، لكن «الصدام التاريخي»، الذي رصده مسلسل «مين أنا ؟»، يوحى، في لحظة، بأن الأب ليس سوى «عدو» أو «غريم»، كما جاء على لسان «شريف» : «على طول مش طايقني وكل شويه يحسسني أني من غيره أتوه»)، وهو ما يؤكده العمل، في مناسبة أخرى، باتهام الأب بأنه كان سبباً في إفساد زيجة ابنته «سارة» (ديانا هشام)، ثم تأكيد «فريدة» : «كل الأباء كده، وكأنهم مش بيغلطوا»، ما دفع الأب للقول إنه يستشعر أنه «ظالم» و«شرير»، وهو تناول فيه تجن صارخ، على الآباء وحسن نواياهم، وتفانيهم في تربية أبنائهم، لم يخفف من تداعياته المؤلمة محاولة التراجع، التي جرت في الحلقات الأخيرة، وأجواء التصالح، والتسامح، والغفران، التي خيمت على الأحداث، في محاولة لتكريس القدوة الطيبة، والنهاية السعيدة، التي لم يكن المسلسل في حاجة إليها؛ بعد تأكيده على أهمية نبذ التبعية، وتوضيح الفارق بين التوجيه والتلقين، ومحو الشخصية، وحدود الواجب، والمسئولية، وتثمينه للصداقة، وروح التعاون بين الأصدقاء، والاحتفاء بالأفكار الطازجة، التي تدفع المجتمع إلى الأمام، بدلاً من الحكم عليها، بشكل مسبق، وقبل اختبارها على أرض الواقع. والجميل أن المواقف الجادة، والرسائل الهامة، وغير المباشرة (استثمار اللاجئين الأفارقة بدلاً من نبذهم أو التنمر عليهم)، لم تحل دون أن تتسم الحلقات بالكثير من الطرافة، والتلقائية، والأداء التمثيلي الذين فاجأنا، ولم يكن متوقعاً على الإطلاق، من الوجوه الجديدة (الترتيب حسب درجة الإجادة) : إلهام صفي الدين، مروان وليد، أميرة أديب، يوسف جبريل، ترنيم هاني، هنا داوود، ديانا هشام ويوسف مصيلحي. ولا يفوتني التنويه بالاجتهاد الكبير، والتقمص الملحوظ، للممثل الشاب أحمد داش، وانصهاره، رغم فارق الخبرة، مع الوجوه الجديدة، وكأنه واحد منهم، والإضافة، والتشجيع، والدعم، الذي أبداه الكبار (حسب ترتيب الإجادة) : نادين، جمال سليمان ومجدي بدر.
فرحة نجاح الفكرة
مذنبون أم أبرياء ؟
وصاية أبوية
التعليقات