تتخذ طبائع الاستهلاك مظاهر عديدة وتستخدم جوانب نفسية وإنسانية وأحلام الناس وربما معاناتهم أيضا لخدمة البيع، كما توظف المناسبات الدينية لتحقيق مكاسب تجارية فيما يسمى تسليع العبادات، أى تحويلها الى سلع تخضع لمنطق السوق من عرض وطلب وترويج، ولعل شهر رمضان خير مثال على ذلك، وإن كانت آليات السوق قد أصلت هذا النهج، فى مناسبات كثيرة يتم توظيفها لخدمة الاستهلاك وبيع المنتجات مثل رأس السنة الميلادية والكريسماس والأعياد الدينية.
اللافت أن تسليع العبادات بفعل ضغط قوى السوق تخرج المناسبات الدينية من صفائها واجوائها الروحية وتهبط بها الى مظاهر مادية ليس لها أدنى علاقة بالقيم التى تقصدها تلك المناسبات، بل على العكس تماما قد تروج آلة الاستهلاك لسلوكيات تناقض تماما طبيعة المناسبة ومقاصدها.
على سبيل المثال رمضان موسم للعبادة والتقرب الى الله بقراءة القرآن والصوم والنوافل ولكن آلة السوق وطبائع الاستهلاك حولته من شهرللصيام والقيام الى موسم للطعام، فالمفترض أنه خلال هذا الشهر الكريم، يزيد فيه الإحساس بجوع ومعاناة الفقراء ممن لا يتحصلون على قوت يومهم طوال العام،ولكن بدلا من ذلك تم تحويل الشهر الى موسم للتخمة وتناول كميات كبيرة من الطعام، حيث تتضاعف خلاله معدلات استهلاك السلع الغذائية، فتوضح إحصائيات غرفة الصناعات الغذائية، أن الأسر المصرية، تنفق نحو 25% من إجمالى الدخل فى الشهور العادية على الغذاء، بينما يرتفع هذا الإنفاق خلال رمضان ليصل إلى 150% وهو ما يفوق حجم استهلاك ثلاثة أشهر فى السنة. كما أن 85% من المصريين يغيرون عاداتهم الغذائية بحسب بيانات الدخل والإنفاق للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء. فقد ارتفع حجم نفقات المصريين فى شهر رمضان بمقدار 55 مليار جنيه، مقارنة بغيره من شهور السنة، وسجل حجم الاستهلاك فى رمضان عام 2020 نحو 70 مليار جنيه، وزاد الإنفاق العام الماضى الى نحو 100 مليار جنيه .أما قمة المفارقة بل والمأساة فتكمن فى أن نحو 30% من هذا الطعام مصيره أكياس القمامة!.
وإذا كانت الدعوة الى ترشيد الانفاق فى رمضان، جزءا من حكمة الصيام ومقاصده، فإن هناك أسبابا إضافية تلح علينا لكى نتخذ من هذه الحكمة مبادرة مستمرة تجعل من ترشيد الاستهلاك أمرا واجبا، ليس فقط لأننا نستورد من الغذاء أكثر مما نتج،وإنما أيضا بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، التى تزيد من مخاوف نقص الغذاء فى العالم، وخاصة بمنطقتنا التى تعتمد على استيراد الحبوب والزيوت واللحوم من أوكرانيا، حيث تستورد مصر 50% من احتياجاتها من القمح من روسيا و30% من أوكرانيا.
نعم لا يوجد تعارض بين العبادة والتجارة وفى الفقه الإسلامى العمل عبادة والدين يقبل العبادة بالتجارة ولكن لا يقبل الاتجار بالعبادة، فيجوزللذاهب إلى الحج أن يحج وينوى التجارة تبعا فى حجه، ولكن فى الوقت نفسه فإن التجارة باب تظهر فيه كثير من أحكام الشريعة التى يجب أن يلتزم بها التاجر، من حيث حرمة الغش والغرر، والاحتكار والمغالاة فى الأسعار، وعلى عكس ذلك نجد ارتفاع الأسعار قبيل شهر رمضان سنويا، ولكن لا تقع مسئولية ذلك على التجار الذين يجافى الكثيرون منهم روحانيات الشهر حينما يغالون فى الأسعار، وإنما يشاركهم عموم الصائمين حينما تحولوا الى زبائن مضمونة حيث يخزنون السلع بكميات كبيرة منذ شهر شعبان مما يحدث زيادة فى الطلب يستغله التجار لرفع الأسعار.
أما الاتجار بالعبادة فهذا مرفوض فى الفقه الإسلامى فلا يجوز أن يستخدم التاجر العبادة لتسويق تجارته، فهذا يعنى تسليع العبادة وتحويلها إلى أداة تسويق، ومن امثلة ذلك استخدام الآيات القرآنية للترويج لسلع أو خدمات تجارية كأن تسمع تلاوة خاشعة من الحرم فتكتشف أنه إعلان لبيع السجاد!. ومن جانب آخر فإن الأصل فى رمضان أنه شهر القرآن قراءة وتدبرا «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ» وموسم للعبادة كصلاة القيام وذكر الله والاعتكاف.
التعليقات