لكل منا رؤيته الخاصة في تسيير مجريات الحياة التي يعيشها مع من حوله سواء كان ذلك على المحيط الأسري أو الآجتماعي أو حتى في التعامل مع أناس وأشخاص تراهم لأول مرة في مكان عملك أو مسكنك أو دون سابق معرفة مطلقة عند خروجك من المكان أو النطاق الذي تعيش أو تعمل فيه أوعند الإغتراب عن موطنك وبلدك التي تربيت وترعرعت فيها ، وقد نجد أحيانا بصورة واضحة التوافق التام بين مايدور في عقلك وذهنك مع تتابع شريط الأحداث والمواقف التي تمر بها كل يوميا والتي تؤكد وبشدة الانسجام التام بين عقلك وتصرفاتك اليومية والتي يندر أن تحيد بين منطق العقل والتصرفات الناجمة عنه ، ومن هنا يأتي المصطلح الذي يطلق عليه أخصائي التنمية البشرية - السلام النفسي أو عدم إزدواج الشخصية ، وقد يتطرق الأمر في الكثير من المواقف أن تجد الصورة مشوشة وغير منضبطة بين عقلك وذهنك أمام تصرفاتك المتكررة والتي تعكس بشكل واضح عدم الإتزان والإضطراب أومايعرف بمصطلح إزدواج الشخصية.
ينطبق ماتقدم على الأفعال وردودها والتي تتعلق بمجريات الحياة وأحداثها خلال اليوم ، ولكن ماذا عن الحواس التي وهبها الله لنا ؟
هل يمكن أن نتعامل معها بإزدواجية مطلقة أو نسبية ؟ هل من الممكن مثلا أن نجبرحاسة البصر لشخص ما أن ترى نفس الشيئ بمعاييرمختلفة في وقت واحد بل والأدهى من ذلك هل نستطيع أن نخبره أيضا أن ماقد يراه رؤي العين في وقت من الأوقات يمكنه أن يراه بشكل مختلف تماما في نفس ذلك الوقت ؟ وماذا عن رؤية الاخرين لنفس ذاك الشيئ ؟ هل يمكن لهما التطابق والى مدى سيكون الإختلاف بين الاشخاص إذا كانت رؤية الشخص الواحد متباينة ومختلفة ؟ هل يمكننا البقاء على قيد الحياة بهذة الدرجة من الهشاشة والتي تختلف من يوم لاخر ؟
يدور الكاتب والأديب والصحفي المسرحي البرتغالي الجنسية جوزيه ساراماجو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام الف تسعمائة ثمانية وتسعون ميلادية في رواية مفتوحة بلا نهايء مطمئنة على تأويلات شتى للنفس البشرية بغموض واضح ومقصود للافكار الواردة فيها ، والتي تفضح وتكشف مايدور في ذهن الكاتب بما لايدع مجالا للشك من السخط الدائم والمنتقد للديمقراطيات الزائفة والازدواجية المفرطة التي نحياها كل يوم.
تدور أحداث الرواية حول وباء يتميز بالغرابة أكثر منه خطورة، ألا وهو العمى أو الوباء الأبيض، حيث يصاب الأشخاص بعمى مفاجئ بدون أي سابق إنذار.
يبدأ جوزيه ساراماجو في قلب الأحداث مباشرة، حيث يبدأ الأمر بأصابة أحد الاشخاص بالعمى أثناء قيادته لسيارته في شارع طويل وتوقفه أمام إشاره مرورية خضراء مما يتبسب في عرقلة الطريق لظنهم أن السيارة معطلة ولكن مع تقصي الأمر وسؤال قائد السيارة عن سبب توقفه فجأة ليخبر الجميع أنه لم يعد يستطيع ان يرى أي شيئ مما حوله ومع تعدد حالات العمى الفردية يصبح الأمر داعيا للقلق ، كذلك السائق الذي عمي أثناء انتظاره في إشارة المرور الصحي بعيدًا عن باقي الأصحاء، لينتقل الأمر باحد الاطباء بضرورة إخبار الجهات المسؤلة بهذ الحدث الغريب مع إمكانية تفشي مرض العمى بشكل أوسع على نظاق المدينة بأسرها ، فيتكدس مكان ما مخصصا للأمراض العقلية ليصبح بأمر الجهات المسؤلة مكانا عاما لاستقبال الحالات المهولة من العميان ، والذي تترك لهم إدارة مقاليد حياتهم وزمام أمورهم ليتصرفوا في شؤونهم كيفما يحلو لهم ، لكن في وسط هؤلاء العميان وجدت أمرأة وحيدة لم يفقد بصرها بعد .. ترى ماالداعي لذلك في أحداث الرواية ولماذا لم يصبها العمى كباقي سكان المدينة . !
يهبط بنا ساراماجو إلى أقصى درجات الانحطاط البشري – الحيواني – ليصور هول ما يحدث في هذا الحجر الصحي، يرجع بالإنسان إلى أزمنة سحيقة من تاريخ الترقي الظاهري، فيرجع الإنسان إلى ما هو أقل من الحيوان حين تقتصر رغباته على الغرائز الأولية البحتة بأشكالها البدائية من المأكل والمشرب والمبيت والشهوة الجنسية، عارضًا الصراع الأزلي بين الخير والشر ممثلًا في العلاقة بين شخصيتين من شخصيات الرواية..
حيث نجد في الفريق الذي يضم الطبيب وزوجته والعاهرة والطفل، أهم شخصية فيه هي زوجة الدكتور، هذا إن لم يجدها الكثيرون هي الأهم في العمل بأكمله، وهي التي لم تفقد بصرها وظلت شاهدة على جميع الأحداث، وكأن أحداث الرواية رسمت هكذا لتخبرنا أنه لابد أن يوجد في الحياة من لم يتمرس في قذارتها ، ومن ظلوا حتى في أحلك الظروف التي تمر بهم على سجيتهم، أو الأصح على إنسانيتهم.
وكما وجد مثال وصورة الخير النقي في شخصية، كان لابد من وجود النقيض في أخرى، صورة للشر السافر. وهنا يأتي دور شخصية هذا الأعمى المصاب بالعمى مسبقًا.. لماذا لم نجده في فريق الأخيار؟ لماذا انضم إلى الأشرار بل وأصبح مستشارًا لهم؟ لما
يجيب الكاتب الفذ في هذة الرواية المثيرة السوداوية على هذه التساؤلات ببساطة في سياق العمل ، ليخبرنا أن الابواب مفتوحة للعميان وأنقل لكم مقتطفا معبرا عن أحداث الرواية والذي يقول : عندما نصبح في محنة كبيرة وقد أُصبنا بوباء الألم والكرب، عندئذٍ يصبح الجانب الحيواني في طبيعتنا أكثر وضوحًا.
التعليقات