نجح فيلم "الجريمة" في تحييد مشاعرك كمتابع بعد ما يستقر في يقينك أنهم ضحايا .. لكنهم ليسوا ضحايا المجتمع
لولا الإشارة العابرة أن الأحداث تدور في القصير ما شعر أحد لأنك لن تجد أثراً للقصير .. الحجر والبشر
في التعريف الأكاديمي لفيلم الغموض، والتشويق، أنه «نوع من الأفلام يدور حول مشكلة أو جريمة، ويركز على جهود المحقق أو التحري لحل الظروف الغامضة للقضية؛ عبر التحقيق. وغالباً ما تتركز القصة على القدرة الاستدلالية، البراعة، الثقة، أو اجتهاد المحقق لمحاولة كشف الجريمة أو تفكيكها بوضع الأدلة والظروف معا، واستجواب الشهود وتعقب المجرم. وغالبا ما يكون التشويق عنصرا مهما في الحبكة. ويمكن أن يتم ذلك من خلال استخدام الموسيقى التصويرية، زاوية الكاميرا، الظلال، والتقلبات المفاجئة في الحبكة».
ولأنني واحد من المتابعين، بشغف، لمسيرة المخرج الموهوب شريف عرفة، أكاد أجزم أنه أنجز فيلم «الجريمة» (122 دقيقة)، وهو يضع نصب عينيه هذا التعريف، بحذافيره، ربما لأنها المرة الأولى، التي يخوض فيها تجربة إخراج مثل هذه النوعية من الأفلام !
أدرك «عرفة» أنه لن يصنع «فيلم غموض»، من دون تصوير، وإضاءة، وظلال، واختيار زوايا، وتوظيف للموسيقى التصويرية، وحبكة درامية، وتقلبات، واتجه، بدوره، للاستعانة بعناصر مميزة، كما فعل عندما اختار مدير التصوير الموهوب عبد السلام موسى، ومؤلف موسيقي يُشار إليه بالبنان؛ مثل أمين بو حافة، وكتب القصة بنفسه، وبعدها لجأ إلى الشابين أمين جمال ومحمد محرز لكتابة سيناريو انطلق من حبكة متقنة توافرت لها مقومات الإثارة والتشويق، ولم يغب عنها التوتر، وربما الارتباك؛ ففي الوقت الذي نجح الفيلم في شحذ مشاعر، وانفعالات، المشاهد، ودفعه إلى التوحد مع ما يراه على الشاشة؛ سواء عبر التوقع أو الارتياب، أو القلق، الذي لم يصل إلى الرعب، حسبما صور البعض، وبالغ كثيراً في هذا !
القصير الغائبة !
هنا لابد أن يلفت انتباهنا طريقة البناء، وأسلوب السرد، الذي اعتمد عليهما فيلم «الجريمة»، ويمكن أن يُثيرا الكثير من الارتباك، والبلبلة، لدى المتلقي؛ فالفيلم يأخذه، جيئة وذهاباً، بين «عادل» (أحمد عز)، نزيل المصحة النفسية، وابنه «حسين» (محمد الشرنوبي)، وتتقاطع الأحداث؛ عبر «الفلاش باك»، مع ثرثرة الأب، وتفرض الصورة نفسها، بقوة، وكذلك الموسيقى والمؤثرات، ونُدرك عبر إشارة يضعها المخرج على الشاشة أننا نعود إلى ماضي الأب، وقت أن كان يعيش، ويعمل، في مدينة القصير (جنوب الغردقة، وتتبع محافظة البحر الأحمر إدارياً)، في السبعينيات من القرن الماضي، وباستثناء هذه الإشارة، وحديث عابر عن «الشاليه»، وصور متفرقة لكل من «مصنع الفوسفات» و«البحر»، لا نكاد نجد أثراً للقصير، الحجر والبشر، وضاعت الفرصة الذهبية، التي أتيحت للخروج بالكاميرا إلى مكان غير تقليدي، وتخليق دراما مغايرة !
بالطبع تبلغ الأحداث ذروتها من التشويق، بارتياب العقيد «أمجد» (ماجد الكدواني) في أمر اختفاء «نادية» (منة شلبي)، زوجة «عادل»، الذي كان مهندس بترول، وانتقل للعمل في مصنع الفوسفات، ونتلمس التأثير المدوي لجده «حسين الناضوري» (رياض الخولي)، التاجرالكبير في المدينة، وصاحب الباع الطويل في الإتجار مع السفن، والمصنع؛ فالجد يُلقن الطفل «عادل» وصايا هدامة، تزلزل ثقته في نفسه، وفي الآخرين من حوله، وكأنه ينتقم من خيانة زوجة ابنه، وقتله قبل أن تهرب، بينما يُكرس العقدة لدى الحفيد، الذي يبدو مدفوعاً إلى قدره، وكأنه واحد من أبطال التراجيديات اليونانية القديمة؛ فمن بين نساء العالم يختار التقرب إلى «نادية»، الأقرب إلى العاهرة، ويتزوجها، وكأنه يكرر مأساة والده المغدور، وتنجح في السيطرة عليه، وخيانته، لكنه، وكأنه أصيب بالجنون، يدمر نفسه، ومن حوله، وتنتابه الهلاوس، والهواجس، ويُطارده شيطان زوجته، ويؤمن بما قاله جده : «الحساب ينبغي أن يكون في الأرض قبل حساب الرب في السماء» !
بين الحقيقة والخيال
بين الواقع والوهم، يخطفك الفيلم، وتتسرب من بين ثناياه الرسائل الأخلاقية، وكلها على لسان الجد، الذي يؤمن أن «الضعيف ليس له مكاناً في عالمنا»، بينما تبدو وصاياه، بالنسبة للحفيد، وكأنها القدر الذي لا فكاك منه، ورغم هذا يتورط الفيلم في إلهاء المتلقي بأحداث جانبية لا لزوم لها؛ مثل العداوة التي يكنها البلطجي «شوقي» (حجاج عبد العظيم)،د للمهندس الشاب، وأيضاً شخصيات درامية يمكن انتزاعها (شقيقة البطل وخطيبها وعائلة «نادية» (محمد أبو داوود وماجدة منير)، ولابد سينتابك الحزن، كمتفرج، وأنت ترى سيد رجب، وهو يُجسد شخصية هامشية بدرجة كبيرة، بعكس الوجه الواعد وليد أبو المعاطي، الذي جسد شخصية «عبد العزيز»، المخبر لدى الجهاز الأمني؛ فالعلاقة بينه والعقيد اتسمت بطرافة مُذهلة، والشاب أدى بتلقائية، ومن دون تصن أو استظراف زائد، وعلى النسق نفسه من الاحترام، والاجتهاد، جاء أداء محمد جمعة، في دور الغفير «توفيق»، في تجسيد بصري، ودرامي، لمقولة «الفضول قتل القطة»، وألقى الضوء على نزعة العنف المتأصلة لدى البطل؛ فالفيلم، إذا استثنينا الارتباك في التصميم المعماري لديكور المكان السري للزوجة؛ فهو تارة في الأدوار العليا، وأخرى في السرداب، يحفل بالكثير من النقاط الإيجابية، التي ترفع من قدره، وتضمه إلى مصاف أفلام التشويق المحترمة؛ خصوصاً في محاكاته المتقنة لحقبة السبعينيات، من القرن الماضي، سواء على صعيد الماكياج (إسلام أليكس) والملابس أو الإشراف الفني والديكور (باسل حسام).
ضحايا أنفسهم !
نجح فيلم «الجريمة» في تحييد مشاعرك كمتابع؛ بحيث لا تتعاطف مع الشخصيات الدرامية، لكنك، أيضاً، لن تكرهها، بعد ما يستقر في يقينك أن جميعهم ضحايا، لكنهم ليسوا ضحايا المجتمع، كما اعتدنا، لكنهم ضحايا أنفسهم، وهي المزية التي تفوق الفيلم في تمريرها؛ عبر أداء تمثيلي مُتقن للغاية، من جانب أحمد عز وماجد الكدواني، اللذان كانا أقرب إلى «القط والفأر»، وتفوق ملحوظ لممثلي الأدوار الداعمة (وليد أبو المعاطي ومحمد جمعة ونبيل عيسى)، ومع النهاية يلجأ المخرج شريف عرفة إلى Twist Plot أو «الحبكة الملتوية»، بالتعبير الدرامي، لكنها الحبكة الملتوية، التي تتسق والأحداث، وطبيعة الشخصيات، وليست تلك التي تقلب دراما الفيلم رأساً على عقب؛ فالمخرج شريف عرفة، كعادته، لم يخرج عن أسلوبه، المحافظ، إذا جاز التعبير، ولم يستعرض عضلاته الفنية، وحتى عندما لجأ إلى الإسقاط على أن بطليه «عادل» و«نادية» سجينا مرضهما النفسي، وعقدتيهما، فعل هذا بسلاسة منقطعة النظير (الإثنان خلف قضبان مُتخيلة)، وطوال الوقت يبهرك تصوير وإضاءة عبد السلام موسى، وحركة الكاميرا، سواء داخل الأماكن المغلقة والضيقة (إستيدي كام نديم جورج) أو تحت الماء (رامي الخولي)، وإن كنت أتجفظ، في ظل هذه الإيجابيات، الزج بالان=تجار في المخدرات، والإشارة السطحية للتبشير بسياسة الانفتاح، وعهد السلام، في اسبعينيات، وما ترتب على هذا من تخريب، واجتياح المخدرات؛ وهي قضية كانت تحتاج إلى قراءة متأنية أكثر عمقاً من المرور العابر، الذي رأيناه في الفيلم، وأكبر الظن أنه مر على الكثيرين، ولم يسترع انتباه أحداً !
التعليقات