• لم يلجأ إلى الابتزاز العاطفي ولم يبرر أسباب ودوافع البطل الشاب للهجرة وترك المأساة تطل علينا من كل لقطة وأداء تمثيلي
• نبه الفيلم في جانب مهم منه إلى عنجهية وكبر وعنصرية الغرب ومعاملته اللا آدمية للمهاجرين
بعد طوفان الأفلام العربية، التي تناولت ظاهرة الهجرة غير الشرعية، لأسباب اقتصادية واجتماعية، والقليل منها سياسية، وانعكاساتها الخشنة، التي أسفرت عن «زيادة معدلات البطش والعنف والترحيل،وتشديد الرقابة على الحدود»، ساد اعتقاد أن الظاهرة استنفدت أغراضها على الشاشة، ولم يعد هناك الجديد، الذي يثير شهية الجمهور، حتى جاء فيلم «أوروبا» للمخرج الشاب حيدر رشيد، العراقي الذي يحمل الجنسية الإيطالية، ليرصد جانباً آخر من الظاهرة، أكثر مأساوية، وأشد إيلاماً، وربما أكثر جدة، وجدية، وفرادة، ما جعله موضع ترحيب، وحفاوة، في كل محفل ينزل ضيفاً عليه.
فعلها «رشيد» (36 سنة)، في فيلمه «أوروبا» (العراق، إيطاليا، الكويت / 72 دقيقة / 2021)، الذي أخرجه وكتبه مع سونيا جيانيتو، وتوقف من خلاله عند ظاهرة الهجرة غير الشرعية، أو «الحرَاقة»، كما يطلقون عليها في الجزائر؛ كونها تعني إقدام المهاجرين غير الشرعيين، بمجرد الاقتراب من حدود الدولة الأوروبية، على حرق هوياتهم، أو أوراقهم الثبوتية، وجوازات سفرهم، على غرار نظرية حرق السفن، وإغراق أي طوق نجاة، بحيث تنعدم أية فرصة للتراجع، ومن ثم تُصبح سلطات الهجرة، في تلك الدولة، عاجزة عن طردهم، أو إعادتهم لأوطانهم، وتضطر إلى إطلاق سراحهم وهي صاغرة. لكن الجديد في فيلم «أوروبا»، أنه لم يركز جل اهتمامه، كما جرت العادة، على مهاجري المغرب العربي، أو الأفارقة، من جنوب الصحراء الكبرى، وإنما عايش مأساة شاب عراقي يُدعى «كمال» (آدم علي)، يسعى، كألاف المهاجرين، لعبور الحدود بين تركيا وبلغاريا، ودخول أوروبا بشكل غير قانوني، وكأن الفيلم يفتح جبهة جديدة، يُحمل فيها تركيا جانباً من مسئولية تواصل موجات الهجرة غير الشرعية من دول مُغايرة؛ مثل سوريا وأفغانستان وباكستان؛ سواء عن طريق بحر إيجة والمتوسط، أو طريق البلقان، الذي يتدفق عبره مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والعراقيين، ويُعد «بوابة المهاجرين نحو الإتحاد الأوروبي».
الابتزاز الغائب
تقطعت السبل بالشاب «كمال»، ورغم أن الفيلم لم يلجأ إلى الابتزاز العاطفي المعتاد؛ بمعنى أن يستطرد في تبرير أسباب الشاب، ودوافعه، للهجرة، فإن المأساة كانت تُطل عبر كل لقطة، ومشهد، وأداء تمثيلي، حتى بدا وكأننا أمام «مونودراما» لشاب هو أنموذج صارخ لمئات الشبان العرب (طوال الفيلم يرتدي تي شيرت "مو صلاح" فخر العرب وقدوة شبابهم)، الذين ضاقت بهم الحياة، ويحدوهم طموح في تغيير يبدو مستحيلاً، وفي غد لا مكان فيه لأوضاع اقتصادية متردية، وكأن «أوروبا» صارت «أرض الأحلام» البديلة، بكل ما يعنيه هذا من أهوال، وفظائع، واجهت الشاب، الذي أشار الفيلم، بطرف خفي، إلى «سماسرة» بعينهم لهم مصلحة في التربح من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وتشجيع الشباب المُغرر به على «ركوب المجهول»، سواء أكانوا من القوات الحكومية، وغير الحكومية، والمرتزقة، أو الجماعات المناهضة للمهاجرين؛ فالشاب يتحول، بمجرد عبور الحدود، إلى فأر في مصيدة، ويُصبح عليه أن يهرب بجلده، ويُضلل رجال حرس الحدود، والطائرات الهليكوبتر، ليهرب من الحصار المفروض عليه، في غابة مترامية الأطراف، بينما جثث المهاجرين غير الشرعيين تتساقط من حوله، وأمامه، والبقاء على قيد الحياة، لمدة ثلاثة أيام، أمله الأخير في بلوغ الحلم !
زاوية مُغايرة لكل ما قُدم من قبل، فقد عودتنا الأفلام التي تناولت ظاهرة الهجرة غير الشرعية، أن ترصد«الضحايا»، وهم يغادرون الوطن، في سرية أو في هزيع الليل، وبعدها نعايش رحلتهم، على متن مراكب متهالكة، يُطلقون عليها قوارب الموت، تتلاطمهم أمواج البحر، وتتقاذفهم بعنف، ليلقوا حتفهم، بعد ما تغرق بهم، أو تجعلهم، في أفضل الأحوال، طعاماً لأسماك القرش، أو تُلقي بهم بين الحياة والموت على أقرب شاطيء، لكن باستثناء مشهد أو اثنين على أكثر تقدير، فإن أحداث فيلم «أوروبا» تدور بالكامل في الغابة، بينما الكاميرا (تصوير جاكوبو كاراميلا) - محمولة في أكثر الأوقات – سريعة الحركة، ولاهثة، تلاحق البطل الشاب، وتوجعنا بالوضع الكارثي، الذي تحتشد فيه قوات الجيش، بعدتها، وعتادها، تدعمها الطائرات العمودية (الهليكوبتر)، وكأنها في حرب. وطوال الساعات العصيبة، التي يعيشها البطل، ونعيشها معه، ينجح الفيلم في تقديم جرعة كبيرة من الإثارة، والواقعية، التي لا تخلو من صدمة، وتُجسد، في جانب مهم من الفيلم، العنجهية، والكبر، والتعالي، والعنصرية، وشتى أشكال المعاملة غير الإنسانية، التي يتسم بها السلوك الأوروبي.
المأزق!
في سياق صورة تتقاطع فيها اللقطات المقربة، التي تعكس حميمية بالغة، وتدفع المشاهد للتوحد مع الشخصية الرئيسة، وموسيقى لا تميل للبهرجة، تُضفي إثارة، وتلعب دوراً كبيراً في تكثيف أحاسيس، ومشاعر، البطل الشاب، الذي يخوض مغامرة صعبة، يقف فيها الموت على بعد أمتار منه، انتابني شعور أن البناء الدرامي غير التقليدي للفيلم ربما يتسبب في إرهاق المتلقي أو يُفقده شهيته للمتابعة، بعد تتابع مشاهد المطاردة، من جانب رجال الحدود، والمافيا، والهروب الدائم، من البطل الشاب، بنفس الطريقة تقريباً، لكن الأمر المؤكد أن حيوية القضية، فضلاً عن القطعات الذكية، والمحسوبة بدقة (مونتاج سونيا جيانيتو وحيدر رشيد) أسهمت، بشكل كبير، في إنقاذ الفيلم من مأزق صعب، قبل أن يقع في فخ الرتابة، والتكرار، وهو المأزق، الذي أفلت منه بسبب أهمية القضية المطروحة، والتجربة الدرامية غير التقليدية (مونودراما سينمائية نجح فيها الموهوب آدم علي)، والإنتاجية الجريئة (العراق والكويت يمولان فيلماً واحداً)، والموهبة الكبيرة لمخرج شاب (حيدر رشيد) خاض مغامرة فنية بمعنى الكلمة، وتصدى لظاهرة شائكة بسلاسة، وكانت النتيجة عملاً فنياً شهد التفافاً عالمياً عير مسبوق؛ مذ عرضه العالمي الأول، في مهرجان كان، وفوزه بجائزة بياتريس سارتوري ( جائزة النقاد المستقلة)، وعروضه التالية في مهرجانات عدة؛ مثل : هامبورج في المانيا وديج في ايطاليا ومهرجان الفيلم العربي في توبنجن بالمانيا ومهرجان سنتيكا بولوجنه في ايطاليا ومهرجان صقلية في ايطاليا ومهرجان ادنبرة وانتهاء بمهرجان البحر الاحمرالسينمائي بالسعودية، الذي حصد فيه، بجدارة، جائزتي أفضل مخرج (حيدر رشيد) وأفضل ممثل (آدم علي).
والأهم أن حيدر رشيد لم يكن مجرد اسم يُضاف إلى قائمة المخرجين العرب، الذين تناولوا ظاهرة الهجرة غير الشرعية؛ مثل : خيري بشارة في «أمريكا شيكا بيكا» (110 دقيقة / مصر/ 1993)، مجدي الهواري في «العيال هربت» (110 دقيقة / مصر / 2006)، الجزائري مرزاق علواش في «حراقة» (95 دقيقة / 2009)، محمد أمين في «بنتين من مصر» (125 دقيقة / 2010)، علي إدريس في «البر التاني» (99 دقيقة / مصر/ 2016) بالإضافة إلى التونسية سارة عبيدي في «بنزين» (90 دقيقة / 2017) .. وغيرهم، لكنه خاض تحدياً كبيراً وأكد أنه رقم صعب في المعادلة الأصعب.
التعليقات