منتهى القسوة والألم أن يرتبط مصير الإنسان بإنسان آخر لاسيما إذا كان كلاهما من طبقات العالم السفلي، ذلك العالم الذي يمتهن بجدارة حرفة ضياع الحقوق وسلب الآمال ولو كانت في حد الكفاف، والأدهى من ذلك أن يكون مقدار ضئيل من بصيص الأمل والنور المنبثق من هذا العالم السفلي بمثابة حياة جديدة أخرى يود الإنتماء إليها بشتى الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة لينال شرف عضويتها علاوة على أن أحد الفروق بين الإنسان الحي والإنسان الميت أن الأخير لم ولن يعلم بقرار موته فقد ذهب الى عالم الفناء وذلك عين الحقيقة، أما الأول فرغم منتهى علمه بحقيقة وعدد الأحياء والأموات من حوله خاصة إذا كان إحداهما من ذويه واهله وعشيرته- قد يكون هو في قرارة نفسه - في عداد الموتى رغم انه حي يرزق ولم يذهب بعد لدار الخلود.
من السائد والمتعارف عليه أن كتمان الهموم يطفئ الروح ويحجب الرؤية ولو كانت العيون ثاقبة، بل ويزيد كتمانها من البقاء والتربع على كرسي عالم سفلي بلا منافس حقيقي ودون أدنى فرصة للترقي بين طبقاته المتعددة، فعلى الرغم من أن هناك عالم خاص بمواطنين مهمشين يحاولون الحياة لايعبئ بهم أحد ولايهتم بشؤنهم ذو شأن ولايوجد بينهم فرق بين أدنى طبقاته وأعلاها، الإ أن عالم المهمشين قد حظى بشرف إنتمائه لعضوية الجمعية السرية للمواطنين.
تنطلق بسرعة البرق هذة الرواية الواقعية الحديثة في عالم أشرف العشماوي لتتحدث عن شخصيات حقيقية نرى من خلالهم الحياة بأعينهم وتعيش مع وحول كل فئات الشعب الأخرى بأريحية تامة ، ولكنها تتميز عن كل أنواع الحيوات الأخرى بأن لديها مخزون من القسوة والألم والقهر وكل أنواع المعاناة اليومية تتجدد تلقائيا بمجرد العبور من مرحلة الى مرحلة أخرى بكل سلاسة ويسر وكأن درجات الترقي في هذا العالم المهمش ذو طابع خاص خلق لأجلهم فقط دون غيرهم يجوبون أدناه الى أقصاه متميزين عن كل أنواع البشر الأخرى ، ولايسع غيرهم أن يضاهيهم في سرعة التأقلم على الأوضاع الصعبة.
أحد أبرز شخصيات الرواية - معتوق رفاعي - الفنان التشكيلي البارع في رسم ونقش اللوحات المتميزة الباهظة الثمن يقرر بكل سلام نفسي وبأريحية يحسد عليها أن يمنح موهبته طواعية لشخص آخر يمتهمن نفس مهنته كفنان تشكيلي ولكنه يديرها بمنظور مختلف حتى يستطيع هذ الآخر إستغلال تلك الموهبة وتمريرها لمن يملك قبلة الحياة متقاسمين لترفها بمعادلات غير متكافئة .
من ضمن شخصيات الرواية الأستاذة راوية مدرسة التاريخ التي قررت الإحتفاظ بلقب الأنسة لأجل غيرمعلوم مع شخص لايملك زمام أموره حتى تقرر في نهاية المطاف بين عشية وضحاها أن تتنازل عن هذا اللقب الزائف لمن يميز الفرق بين انصاف الحلول ،ورغم أنها مدرسة متميزة تحكي قصص التاريخ بعذوبة يسهل فهمها للقاصي والداني فقد أحترفت سرد بعض حواديت تاريخ المرحلة الخديوية من تاريخ مصر الحديثة بمحتوى مرموق يشد الأذان للأنتباه ولكنه مع كامل الأسف يأتي كثيرا من خارج المنهج ليتسبب في رسوب إحدى زهراتها ، وهناك عالم موازي آخر فالطبيب خليل البنهاوي الذي أمتهن تلك المهنة العظيمة بمحض الصدفة البحتة فكان الحظ السعيد أكثر إنصافا له بنفس القدر من هذه الصدفة العجيبة ، وهناك شخصية أخرى لها عجب العجاب – أسعد جرجس كومبارس في الحياة وفي السينما فلا يعرف حدودا فاصلة بينهما حتى جهل الفرق بين مايجب أن يؤديه على خشبة المسرح ومايجب أن يؤديه على مسرح الحياة الواقعيه ، فكان له نصيب وافر من العقاب المستحق ليتجاهله الفنان التشكيلي تماما من رسم صورته على لوحته الخاصة بالجمعية السرية للمواطنين.
أشخاص أخرى كثيرة ضمن أحداث الرواية يحملون درجات متفاوتة من المعاناة والألم مع قدرات متساوية لعلاج هذا الألم والتغلب عليه، يحترف بعضهم الصعود للهاوية بمحض إرادته ويتنازل الآخرين طواعية عن أداء مهاهم في مسرح الحياة الهزلية، ليقتنصها أشخاص جدد وكأنها منحة مجانية لتذوق أصناف مختلفة من حجم المعاناة.
الرواية من العيار الثقيل لسرد الواقعية المريرة المفروضة على الجميع في مشاهد ضاحكة وباكية في نفس الوقت ، وقد تفانى أشرف العشماوي في رسم شخصياتها بحرفية بالغة، لدرجة تمكنك بقدر متواضع من التركيز من تحديد هوية أبطالها بمجرد النظر فى بورتريه بسيط لها مرسوم على غلاف فاصل القراءة المرفق مع الرواية ، ومزين بفكرة جديدة بذكر أسماء جميع الشخصيات وهويتها على هذا الفاصل الأنيق.
الفترة الزمنية لأحداث الرواية تعود لبداية الألفية الجديدة مع مطلع القرن الحادي والعشرين في مشاهد متكررة لفترات ما قبل وبعد الألفية وفي ذلك التباين الزمني الطفيف مشاهد متكررة في منتهى الواقعية الأليمة لعدم أرتباط معاناة المهمشين بحقبة زمنية محددة ورغم تعدد الشخصيات في أحداث الرواية ،اكتفى المؤلف بوجود شخصيتين نسائتين فقط ضمن الست عشرشخصية في تحيز واضح للعنصر الذكوري لرفع راية المهمشين في الحياة، ولا عزاء للسيدات في ذلك فهن أقدربكثيرعلى تحمل ضعف الألم والمعاناة في كل أدوار الحياة وليس في هامشها فقط.
رواية جديرة بالقراءة فإسقاطاتها تنخر الزمان والمكان وأشخاصها أناس يعيشون معنا.
التعليقات