في كل يوم بينما أقضي نهاري وليلي في تصفح الفيسبوك اقرأ عشرات إن لم تكن مئات البوستات التي تتحدث عن التربية.
هذه تحكي موقف لها مع صغيرها نخرج منه بعبرة، وهذا يحكي موقف مع أبيه نخرج منه بحكمة، وهذه مدربة علاقات تنصحنا نصائح من ذهب، وهذا دكتور نفسي يدلنا على الطريق القويم لتربية أبنائنا، وهذا شيخ يذكرنا بدورنا في زرع الإيمان في قلوب الأبناء.
نُعجب، نُصفق، وغالبا ما نُعلق بكلمات التشجيع، وربما نقوم بمشاركة المنشور مع إضافة بضعة حروف توصف مدى حماستنا على رأس الموضوع، ونكمل التصفح بكل طاقة إيجابية وسعادة.
وفي أوقات فراغنا، فقط في أوقات فراغنا القليلة ننظر حولنا نبحث عن الصغار الذين من المفترض أن نطبق عليهم ومعهم ما قرأناه من أساليب التربية الحديثة التي أثارت حماستنا منذ بضع ساعات وربما أيام.
ينتظرنا في طرف الغرفة طفل بعقل مختلف عن هذا الذي كنا نملكه ونحن في مثل أعمارهم،طفل يمسك هو الآخر هاتف أو حاسب آلي، يتصفح عالم آخر، ليس عالمنا بكل حال من الأحوال، ربما يبحث فيه عن الأب المثالي والأم المثالية، ربما تظهر له هو الآخر منشورات كيف تصبح حرا وكيف تربي نفسك بنفسك، نحاول الحديث معهم، نحن من حيث أتينا وهم حيث هم، عالمين مختلفين يلتقيان على أرض غرفة المعيشة الواقعية. غالبا ما تصطدم العوالم هنا على هذه الأرض، بخيبة أمل أحدث نفسي (كنت أتمنى لو أن…. ) ولا أدرك أن صغيري أيضا (كان يتمنى لو أن..)
أعود الى شاشتي بإحباط ثقيل ويعود صغيري الى شاشته أكثر مني إحباطا.
أتسائل هل فات الأوان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ فبمقياس العدالة أنا الأكبر والأكثر تفهما والأكثر حكمة بل والأكثر خبرة ،فقد عشت بعض السنوات بدون جمود التكنولوجيا وأدرك تماما كيف هو الفرق بين واقعنا وإفتراضيتنا.
لماذا أصر أن أربي صغاري من خلال نصائح الغير،هل ما قرأته من مواقف رائعة عن التربية كان حقيقيا؟ هل يكذب البعض، أم يتجملون؟ أم أنها لحظات تجلي بين يوم من الإحباط يشبه يومي تماما؟ أعود للتصفح ربما أجد إجابة، وتقابلني المزيد من المنشورات الإيجابية عن تربية الأطفال، لكنني هذه المرة لم اقرأها بنفس الحماس، فإبني مختلف، وأنا لم أعد أملك من الطاقة المزيد لأبددها في إخفاق أخر.
في الواقع إن كان هناك ما يجب أن نتعلمه في ظل هذا التطور الغير مسبوق الذي يملأ كل مجالات حياتنا، فهو أن الصغار بل ونحن أيضا قد تغيرت تركيبتنا الشخصية بنسبة ٩٠٪ ولم نعد نحن ذاتنا هؤلاء الأشخاص الذين يملكون الرغبات والإحتياجات نفسها، نحب هواتفنا، تسعدنا وتعطينا كل ما نرغب فيه، نتسوق من خلالها،نتكلم مع أصدقائنا، نبني علاقات ونهدم أخرى، نضحك، نحزن، نبدع، نلعب، ونتعلم…
عزيزتي الأم، عزيزي الأب، إن كنت تريد نصيحة حقيقية لتربية أبنائك في هذا الزخم الإلكتروني، فسوف أقدمها لك في جملة واحدة قصيرة (اجعل أذرعك مستعدة للحضن في أي وقت) إياك ثم إياك أن يبحث طفلك عن أحضانك فيراك منشغل بإحتضان هاتفك.
لا تكذب على نفسك وتخدعها بقول أن اطفالك لم يعودوا يحتاجون إليك. حضنك هو الأمان بالنسبة لهم، هو الملاذ الذي سيبحث عنه صغيرك عندما يخفق في الفوز في لعبته التي استحوذت على عقله، ستبحث عنك ابنتك عندما تجد أن الحذاء الذي تود شرائه لم يعد متوفرا علي الموقع الذي بددت أيام في تصفح كل قطعة معروضة عليه، سيبحث عنك إبنك عندما يأتيه خطاب منحة الجامعة على بريده الإلكتروني بعد أن كاد الظلام يهيمن على قلبه، وستبحث عنك إبنتك عندما يتخلى عنها أول حبيب برسالة مؤلمة على هاتفها الجوال دون رحمة او رأفة لمجرد أنه سئم.
كونوا هناك لأن من أجل أبناؤكم فعدم وجودكم في هذه اللحظات سيعني فناء العالم،بل فناء العالمين..الواقعي والإفتراضي.
التعليقات