احتفل قبل أيام عدد من الزملاء بذكرى فنان الكاريكاتير عبد المنعم رخا، رائد هذا الفن، بعد أن كان أغلب الذين مارسوه قبله أجانب قدموا إلى مصر، مثل الإسبانى خوان سانتيس والأرمنى ألكسندر صاروخان والتركى على رفقى وغيرهم، منح رخا المذاق المصرى الخالص لفن الكاريكاتير، ومن بعده انطلق عشرات من المبدعين على صفحات (صاحبة الجلالة).
كانت مؤسسة (أخبار اليوم) فى تعاطيها مع هذا اللون تعتمد على ثنائية المفكر والرسام، القلم والريشة، ولم تكتف الجريدة بمفكر واحد، ولكن ستجد فى الجلسة التى كانت تعقد منذ نهاية الأربعينيات، عمالقة بحجم مصطفى أمين ومأمون الشناوى ومحمد عفيفى وجليل البندارى، وهم يتبادلون الأفكار لإحالتها إلى كاريكاتير على يد رخا.
وهو ما دفع فى السبعينيات مصطفى أمين إلى تكرارها مع (دويتو) احمد رجب ومصطفى حسين، أشهر ثنائى عرفته الصحافة المصرية، فاكهة المصريين كل صباح على الصفحتين الأولى والأخيرة. عندما كانوا بعد رحيل فنان الكاريكاتير الكبير صلاح جاهين، يسألون الكاتب الكبير إبراهيم نافع رئيس تحرير (الأهرام) عما تتفوق فيه جريدة الأخبار، تأتى إجابته كاريكاتير مصطفى حسين وأحمد رجب. عرفت الفنان الكبير عبد المنعم رخا، وكثيرا ما حرصت على لقائه لأستمع إلى حكاياته عن زمن العمالقة، وفى واحد من الحوارات سألته عن حقيقة واقعة رواها لى الموسيقار الكبير محمود الشريف.
كان الشريف فى سهرة مع رخا بمنزله بعمارة (استراند) فى باب اللوق ممسكا بالعود، بينما رخا ممسك بريشته، فلقد تعود رخا، أن ينفذ الكاريكاتير فى بيت صديقه، وفجأة هتف الشريف فى جنح الليالى قائلا «فردوس»، أريد أن أذهب حالا إلى فردوس، كانت هى ملهمته وتقطن بالمنصورة، ولم تكن وجوه الملحنين معروفة للجمهور، ولهذا عندما كان يذهب إلى هناك يطلق عليه أهل (الحتة) متهكمين (مجنون فردوس). الشريف ليس لديه سيارة بينما رخا يملك واحدة، وكان ينهى الرسم لتسليمه فى الصباح لرئيس التحرير مصطفى أمين، وأدرك رخا أن صديقه العاشق المتيم لا يمكن له سوى أن ينفذ رغبته.
وعلى الفور مزق رخا أرواق الرسم وألقاها من الشرفة بالدور التاسع قائلا للشريف «من الممكن ألا أسلم غدا الكاريكاتير، وأترفت من الجريدة، ولكنى لا يمكن ألا أوصلك لفردوس»، وأمسك بمفتاح السيارة قائلا للشريف «اجهز وأنا تحت أمرك»، وبكى الشريف واحتضن صديق العمر قائلا «حبيبى».. وأرجأ السفر لليوم التالى. قال لى رخا وأنا أذكره بتلك الواقعة، إن كل ما قاله الشريف صحيح تماما من وجهة نظر الشريف، بينما الحقيقة هى أن رخا أدرك أن هذا الموقف فقط من الممكن أن يثنيه عن الذهاب إلى فردوس، وما ألقاه من أوراق كان مجرد (شخبطة) أولى للفكرة.
وراهن على أن الشريف سوف يتراجع فى اللحظات الأخيرة، ليعيد هو مجددا الرسم. الآن أتأمل تلك الواقعة وكيف يرى كل منا الحقيقة، لدينا زاوية رؤية نُطل منها على الحدث، كل من الشريف ورخا كان صادقا فيما يرويه، بينما ليست بالضبط هذه هى الحقيقة. سألت الفنان الكبير رخا: ماذا لو تشبث محمود الشريف بموقفه وأصر على السفر؟، أجابنى: مؤكد كنت سألقى من الشرفة بما تبقى من أوراق، وأذهب معه إلى فردوس، وأترفت... أترفت!!.
التعليقات