تخيل أنك ستولد في مصر في منتصف الأربعينات لأبوين متعلمين من الشريحة المتوسطة.
سيتيح لك هذا فرصا في الحياة أفضل من أغلب أبناء وطنك الذين يعانون الفقر والجهل.
لكن أن يكون أبويك من معتنقي الشيوعية والمروجين لها فسوف تتضاءل فرصك، فالملك والانجليز والأحزاب والشعب المتدين بطبعه قد أجمعوا أن الشيوعية طاعون، وأن الشيوعيين هم الفئران الناقلة للوباء. أبشر.. فور ولادتك ستودع نسخة من شهادة ميلادك في سجلات البوليس السياسي.
لكن ربما مع الوقت يتخلى أبواك عن نشاطهما المثير للريبة، وقد تحيا حياة عادية.
لكنك عندما تولد يقرر أبواك أن يسمياك "لينين" تيمناً بإسم مفجر الثورة الشيوعية ونبيها الأكبر، وهنا تنعدم فرصك تماما في الحياة العادية، فبإسم كهذا تكون وُلدت وكأنه قد رُسم على جبينك جمجمة كبيرة وعظمتين، وكُتب تحت الرسم بالخط الأحمر "إحذر .. هذا الطفل ضار"!
كطفل سيكون عليك أن تتحمل الكثير من نظرات الاستهجان وعبارات السخرية.
وسيكون عليك أن تجيب طوال الوقت على أسئلة من نوع "مسيحي ولا مسلم؟"، " إنت مصري؟"، وربما سيداعبك أحد اللطفاء قائلا: "إسم ده ولا منشور سياسي؟"، وقد يتمتم أحد الأتقياء معتقدا أنك لن تسمعه: "لينين! أستغفر الله العظيم".
إذاً أنت تنشأ في أسرة تعاني من التضييق السياسي والمالي في عصر الملكية ثم الجمهورية. سيكون من الصعب عليك أن ترتاد المدارس الراقية أو أن تمتلك الثياب الأنيقة واللعب. بل أنك ستتلقى من أمك التي ستقدسها للأبد صفعة يائسة لأنك ألححت في طلب قرشين لشراء مجلة. ورغم الكبرياء الذي لن يفارقك لحظة ستغفر أنت هذه الصفعة، بل لعلك ستمتن لها لاحقا. "صفعة القرشين" التي تضعك أمام الحقيقة مبكرا جدا، تساعدك في إدراك مكانك في العالم.
لن يلومك أحد لو بدا لك العالم حينها مكانا خاليا من البهجة . ففضلا عن منشأك المريب للسلطات، ستكبر لتصبح متوسط القامة نحيل الجسد، على عينيك نضارة وعلى وجهك مسحة من كآبة. سيكون من الطبيعي أن لا تجد كثيرا من الأصدقاء، لا تلوم الناس ولا تغضب. ألست أنت من قال أن "الغضب حماقة يا حورية" .. كل هذا طبيعي جدا.
لكن من قال أنك طبيعي!؟
لقد أدركت مكانك في العالم وعرفت أنك مسجون في إسمك وسط الناس فتقرر الهروب.. إلى الناس. تصادق أطفال الحي وتلعب معهم الكرة في الشارع. تجيد توزيع الأدوار وشرح الخطط فيحبونك، ولا يلاحظون أن اسمك "لينين"، فالأطفال لا يرثون الضغائن.
وفي المدرسة تتفوق وتكتشف مكتبة أبويك فتقرأ كأنك في سباق محموم مع الزمن. وسيكون من الطبيعي أن تكبر شيوعيا مؤمنا بفكرة غامضة إسمها "الجماهير". لكن من قال أنك طبيعي؟ ستكبر مؤمنا بحقيقة إسمها "الجمهور". ستؤمن بالناس، مهربك الوحيد.. وستعيش عمرك من أجل إيمانك.
لن تعتنق الشيوعية لحظة، ولن تؤمن بأي فلسفة تمجد السلطوية، وستقضي عمرك مدافعا
عن حرية الفرد والعقل، ومن الطبيعي كمثقف ينحاز للإنسان العادي انحيازا غير مشروط أن تكتب كما يكتب المثقفون. لكن من قال أنك طبيعي؟
لا تكتب الكتب أو المقالات الفكرية العميقة، ولا تكتب الأشعار البليغة أو القصص المليئة بالمآسي الفلسفية، بل تكتب المسرحيات والمسلسلات الكوميدية. لقد أحببت الناس العاديين وأحبوك، وعرفت أنهم بحاجة لبسمة ترتسم على وجوههم المرهقة وفكرة تتسلل لعقولهم وقلوبهم المليئة بالهموم. تعالج القضايا الشائكة بالضحكات، دون أن تعبأ بأن ينظر لك الوسط الثقافي ككاتب من الوزن "الخفيف". أنت لا تسعى وراء "اللايكات" المبهمة بقدر ما تسعى أن يشعر الناس بكلماتك.
ومع مسرحية تلو مسرحية ونجاح يتلوه نجاح يبدأ العالم في تقبل أن يكون هناك شخص طبيعي وموهوب وناجح واسمه في نفس الوقت "لينين". حقا يرفض فنان عظيم أن يؤدي لك مسرحية لأنه لم يشأ أن يوضع إسمه على الأفيش بجانب إسمك المثير للشبهات، لكن لن يمر كثير من الوقت حتى يتعاون نفس الفنان معك في مسرحية يعدها البعض الأهم في مشواره المسرحي المبهر. فلقد أصبح إسمك على الأفيش الآن أشبه بختم الجودة. ضحك وأفكار بلا ابتذال، سيما وقيمة!
وتمر سنواتك، ومعها تمر مسرحياتك ومسلسلاتك وأفلامك. وتنتقل شخصياتك وعباراتك من خشبة المسرح والشاشات إلى دنيا الناس، متجاوزة معانيها الفنية إلى دلالات إنسانية يفهمها الجميع. أيمكن لمن وُلد غريبا في بلاده أن يطمع لأكثر من ذلك؟
"علي بك مظهر" أصبح وصفا لكل تافه عديم الموهبة يمنح نفسه أكثر مما تستحق. "لا تناقش ولا تجادل يا أخ علي" أصبحنا نقولها لنسخر من الآراء التي لا ترى من حقنا أن يكون لنا رأي. وإذا أردنا أن نلخص الحكمة من مأساة شخص إنخدع في الناس والأفكار ننبهه ببساطة إلى أنه "إنتهى الدرس يا غبي". أصبحت "مش مهم يكون عندك نظر، المهم يكون عندك وجهة نظر" حكمة متداولة. وأصبحت "بالعربي الفصيح" أكبر دليل على أننا لا نفهم ما يقال. "أهلا يا بكوات" نقولها لكل من يحيون خارج الزمن، "وكنتي سيبيه يمسكها يا فوزية" دلالة على أن التزمت الأجوف قد يؤدي للتنازل المهين. وإذا سمع أحدنا "تكلم يا بن الشعب" فهم أن من الحكمة أن يصمت.
أصبحنا نعلم أنه من الضروري أن "نسك على بناتنا، لكن نديهم المفتاح"، ومنحتنا "إيجيبشيان هيبوسني" سلاحا ماضيا للسخرية من ذوي النزعة الشوفينية الضيقة. "ما تقدرش" نقولها بإلحاح وتحدي في وجه من نعلم مسبقا قدرتهم على الفتك بنا، لعلها تجذب لوجوهم ابتسامة.
ومرهقا بعد السنوات الطويلة ستشعر أن الحياة قد أعطتك كل شيء. الزوجة المحبة المؤمنة بك التي دعمتك للنهاية، الإبن البار والإبنة الحنونة، حب الناس والشهرة والجوائز الوطنية والعالمية. وسوف تُكتب عنك الكتب والمقالات والرسائل الجامعية. لقد شعر الناس بكلماتك. وستدرك أن إسمك العجيب كان أعظم هدية منحها لك أبواك عند الولادة. فهو إسم لا يسقط بسهولة من الذاكرة كما تنبأ لك أبوك.
ولأنك أمضيت عمرك في صنع المفارقات الدرامية، تباغتك الحياة بمفارقة أخيرة، فتصيبك بنفس الداء الذي أودى بحياة "فلاديمير لينين". لكنك بعنادك الصلب تمسك بالقلم وتكتب نص الوداع مستخرجا من اللحظة ضحكا نبيلا، فيكون آخر ما تقوله للناس مودعا مسرحية "إضحك لما تموت".
وترحل في صمت وهدوء بعد أن ملأت العالم ضحكا وصخبا وجدلا وأفكارا. ويكفيك أنه إذا ذكر اليوم في بلادك إسم "لينين" فسوف يدرك الجميع أن الرجل المقصود هو لينين فتحي عبدالله فكري الرملي، الذي ولد في القاهرة في مثل هذا اليوم 18 أغسطس من عام 1945.
التعليقات