كنت أشاهد فيلم سيرة ذاتية اسمه "أنا إمرأة" يروى قصة المغنية "هيلين ريدى"، وكانت صديقتها التى تأثرت برحلتها "ليليان روكسون" والتى كان حلمها تأليف أول موسوعة عن فن الروك؛ وقد خرجت من هذا الفيلم بتساؤلات كثيرة منها، لماذا لايوجد فى الثقافة العربية موسوعات غنائية تتحدث عن تاريخ الاغنية التراثية أو الشعبية، أو فن الموال والفارق الزمنى بين كتاب الأغنية الحماسية قبل ثورة 1919، ثم يوليو ثم ما بعد الثورتين باعتبار أن الأغنية الوطنية شهدت ميلادا مغايرا تماما.
ثم تذكرت ثورة يناير وعدت لأسال نفسي، هل نجحت حقا مثل سابقتيها أن تغير فى إيقاع الأغنية المصرية شيئا لأرى غلاف كتاب وش غضب وعليه كافة المغنيين الحديثى الظهور قبل وبعد الثورة، ولم أصدق حقا أني وجدت ضالتى فى إجابة سؤال هام عن التأريخ الفنى للأغانى فى القرن الجديد.
يؤرخ الكاتب لعصر الانقلاب الموسيقي بعد ثورة يناير على يد الفرق التى ظهرت في الإسكندرية، والتى أرخ لهم بجمال فيلم "ميكروفون" كفرق تطلق على نفسها الأندرجراوند ثم تبعهم الدخلاوية من الإسكندرية وأوكا وأورتيجا من الأميرية فيما يعرف باسم المهرجانات الشعبية، ويرى الكاتب أنها الموسيقى التى تناسب دحرجات التكاتك على الأزقة بموسيقاها الزاعقة كأداة للتكدير العام.
يحلل الكاتب موضوعات هذه الأغنيات التى استشرت بشدة فى الأوساط الشعبية والأرستقراطية على حد سواء فيراها تستخدم كبوق تحريض ضد المرأة والتحرش بها وطبعا شرب الخمور والحشيش، تلك الكلمات التى منعت صاحبها من دعم نقابة الموسيقيين حينما لم يبر بوعده بحذفهما فى حفل الإستاد الشهير.
وعن الهضبة والهاربين معه من حظر الزمن مثل بهاء سلطان والهيثمين شاكر وسعيد ورامى صبرى، يخسر الهضبة بأغنية جامدة وتلت بنات التى يراها د.محمد طه فى كتابه الأخير "ذكر شرقى منقرض" أن النرجسية قد تحنطت لتلائم هذه الأغنية المغرقة فى الذكورية المعبرة عن شهريارات رجال الشرق ؛وأن رامى الرومانسى حينما غير جلده من الرومانسية للردح بأغنية "لما الراجل يتكلم " أن ذلك امتداد للهوجة التى ضمت "إنت مغرور" للهضبة وضمت "سوبر مان" لسميرة سعيد ويسأل الكاتب سؤالا كلنا نحاول أن نتخيل إجابته.
هل يقرأ هؤلاء المغنيون كلماتهم بصوت عال ويتلذ لهم سماع تشوهاتها الأخلاقية والنفسية وبعد ذلك يسارعون بتلحينها وغنائها؟! إن كان ذلك يحدث حقا فيالجبروتهم !
لم يغرق الكاتب تحليلاته فى الأغنية المحلية بل لفت إنتباهه إحدى الأغنيات التونسية التى انتشرت نغمتها على الهواتف فجأة ليبحث عنها اسمها "ليلى" ويأتى لنا بكلماتها "ياليلى وياليلة؛ وايش باش نشكيلك يا أما" والمترجمة لأكثر من لغة لأنها تتحدث عن معاناة الأطفال والتفكك الأسرى لذلك وصلت إلى العالم كله، وكالمعتاد من المثقفين العرب المنتمون لمدارس الغناء القديمة فيفتخر أحدهم بتلخيص انتماءه فى جملة "إحنا بتوع الحب كله ولانهتم بمعرفة الرابر لأنهم عيال توتو" ويعقد الكاتب بعد هذه الجولة فى تونس مقارنة كعادته مابين الراب المصرى وراب المغرب العربى فيرى أن إختلافها شكلى فقط والمضمون واحد.
فى نهاية الكتاب يلخص الكاتب رحلته عبر هذه العوالم الغنائية، التى خاض فيها إنفعالات متباينة مابين حماسة وإحباط ..إنبهارا وسخرية.. فرحا وحزنا بأن المهرجانات هى اشبه بموسيقى الزار المثيرة للاعصاب وأنها لاتمس القلوب فى شىء وأن قصص الفن الحقيقى التى نروى كواليسها من كفاح وصبر هى التى تثمر ثمارا خالدة وأن الشغف بالفن ستبقى حلاوته فى آذان محبيه الحقيقيين الذين يعدون آهات وتنهيدات الست فى كل تسجيل وآخر.
بالأخير أتمنى من كتاب آخرين مثل "محمد حسن الصيفى" أن يثروا مكتبتنا العربية بتحليل مثل هذه الظواهر الفنية التى تأخذ مساحتها على الساحة الفنية برغم كل الإنكار والإحتقار .. فهى تنتشر سواء رضى عنها المثقفون الجالسون بالبرج العاجى أم أبوا .. فحتى المجمع اللغوى حين نسأله عن أصل كلمة ولايعرف يخبرنا أنها كانت شائعة الإستخدام وهو يعتد بها حتى لو كانت غير صحيحة لغويا؛ فعلينا أن نحترم شيوع هذه الظواهر الفنية ونحرص على تحليلها نفسيا وإجتماعيا لأنها تؤثر بمرور الوقت فى الذوق الجماهيرى العام.
التعليقات