أنتمي لجيل اعتاد الهزائم والإخفاقات.. تفتح وعيي على "تونس 78".. ذكرى مستقرة في القلب كالخديعة لطفل اندس وسط كبار الأسرة المتحلقين حول المذياع.. الخيبة على الوجوه وفي العيون حسرة.. "لن نذهب لكأس العالم؟".
تأتي إجابة السؤال الساذج كالصفعة، "لن نذهب أبدا".. تكاد تعترض ولكنك تؤثر الصمت، ماذا تعرف أنت عن الدنيا يا صغير؟ هزيمة مفاجئة تضعك مبكرا في ركن مظلم ضيق من العالم.
وتتوالى إخفاقات المنتخب وفصوله الأشبه بالخيانة، هزائم غير متوقعة وأداء مهين.. تتعجب من اعتياد الكبار للأمر.. يأخذونها مزحة، لكنك تشعر أنهم يلوكون السم مع الكلمات المرحة.. الثغور باسمة لكن العيون منطفئة.. تحنق عليهم وتلعنهم في سرك..
وتأتي "كأس العالم 82"، وتفهم أن النصر أكبر من الفوز.. لا يكفي أن تربح البطولة، لابد أن تتحلى بالبطولة.. فالبطل في الملعب كالبطل على شاشات السينما، هو الذي يقاتل ببسالة وشرف، حتى لو سقط في النهاية بطعنة غادرة.. فإيطاليا تفوز، لكن الجميع لا يتحدثون إلا عن البرازيل.
وتفوز الفرق المحلية بالكئوس الأفريقية فتفرح وتشعر أن النصر قادم لا محالة.. لكنك في قرارة نفسك تعلم أنها انتصارات على فرق أضعف.. لا، ليس هذا ما تصبو إليه، البطل هو من يقهر الأبطال.
وها هي "لوس أنجلوس" آتية.. وتتعجب كيف لا ينتظر الكبار سوى الهزيمة.. "يكفي أننا وصلنا!".. أي لعنة تلك التي استقرت في أعماقكم!
وتصعقك الحقيقة.. قد تفوز في مباراة لكنك تخسر أمام الأقوياء لعبا ونتيجة.. وينصحك الكبار أن لا تصدق حديث الصحف عن التحيز والمؤامرات.. "فرق لياقة، فرق وعي، فرق في كل شيء يا بني".. وينبهك أحدهم أنه لكي تنتصر لابد أن تنزع أولا رداء الهزيمة، تنظر له متسائلا فيفسر "الخوف، الشعور المسبق أن النصر لم يكتب لك".. وتبدأ عدوى اعتياد الهزيمة في التسلل إليك.
وبينما يستحوذ اليأس عليك وتبدأ في تقبل أن الوصول لنصف النهائي إنجاز عظيم، يضع طاهر أبوزيد الكرة من فوق رأس "بادو الزاكي"، وترى لأول مرة في حياتك منتخب بلادك يرفع كأس بطولة 86.. نعم، كان الطريق شاقا والأداء لم يكن مبهرا، لكن القادم لا محالة أفضل.. وتصرخ في وجه الكبار الملعونين بنعمة الرضا " سنربح كل ما هو قادم" فلا تلقى سوى القهقهات الرحيمة.
وتأتي إيطاليا 90، لكنك أصبحت أكثر حذرا. قد تسير في طريق مضيء، لكن عليك ترقب الكلب الذي سيباغتك من الحارة المظلمة.. لا تجد في "عدالة السماء التي تحلق فوق ستاد باليرمو" سوى مفارقة ساخرة.
تعلم كما يعلم الجميع أن "حسام كان أوڨسايد" والدفعة خارج الصندوق.. ولكن سحقا.. هذا جزء من اللعبة علينا وعلى غيرنا.
ثم يأتي ما آتى ليقتل كل ما هو أصيل في اللعبة التي عشقتها.. الهزيمة أفضل مائة مرة من هذا الخزي الجبان.
ويتوالى العبث فلا يعد قادرا على أن يحزنك.. لقد أصبحت كالكبار الذين لعنتهم يوما، معتادا للهزيمة. وتشعر بـ "بوركينا فاسو 98" كنسمة صيف قائظ.
لكنك أصبحت الآن واقعيا.. تعلم أن القرعة قد أزاحت من وجهك كل الأبطال.. لا تجرؤ على الابتسام طويلا، فالذي تحقق الفوز لا النصر.. النصر لا يأتي إلا على حساب الأبطال.
وتأتي 2006 فلا تكترث ولا تتابع. لقد أصبح الأمر فجا، وأصبحت مكتفيا بهزائمك واحباطاتك الشخصية. لقد أصبحت رجلا. وتأتيك من صديق مكالمة تستشعر فيها الصدق، "هل شهدتهم؟ إنهم رائعون". لم توقظون الأمل؟ لا بأس، فلنشاهد كما كان الكبار يشاهدون.
ويأتي النصر! أربع سنوات متتالية من النشوة والفرحة المصفاة.. نفوز عن استحقاق وعدل.. نزيح كل الأبطال واحدا تلو الآخر.. مع صفارة البداية ينطلق الرجال نحو معاقل الخصوم ليدكوها بلا هوادة.
ويسألك من يصغرونك عمرا عن توقعاتك للقادم فتجيب في كل مرة صادقا "سنكسب طبعا".. إنه فريق لا يخشى الهزيمة، إنهم يلعبون الكرة.. وتداعب الكبار الذين أصبحوا حينها عجائز فتجدهم مثلك، واثقين من النصر ولن يرضيهم غيره.
وتجد نفسك متطلعا للقاء البرازيليين، لا تخشاهم بل تطمع في الانتصار عليهم.. وتكاد المعجزة أن تتحقق لولا أن الكرة التي نعشقها تعشق البرازيليين أكثر.. لكنك لا تحزن، كانوا رجالا، كانوا يلعبون الكرة.
"المصريون مروا من هنا". حتى في أم درمان لا تحزن، تعرف أنك الأفضل بمراحل وأن اللوائح الغبية قد ظلمتك دون قصد.. لكن لا بأس، لم يعد الوصول لكأس العالم الآن هو الغاية، هناك كأس ثالثة قادمة وسنربحها، وحينها سننتقم.
وتأتي لحظة الثأر، وكأن روح أمل دنقل قد حلت بالميدان ونفثت في صدور الرجال تعويذتها السحرية.."لا تصالح، بل اغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم".. وترفع الأنخاب ويأخذك الطرب فلا تجد ما تتغنى به سوى "خاصمني يا زماني وارجع صالحني تاني.. نسيني اللي جرى لي في العمر الأولاني". "تونس 78" وما تلاها لم تعد تثير الضغينة.
لم تعد بعدها تعبأ بالانتصارات الباهتة ولا المكاسب الضئيلة.. ولم يعد الإخفاق الذي عاد ليحتل المشهد يضايقك.. لقد ذقت شراب النصر وارتويت تماما.. وكما كان الكبار بالأمس يسخرون من حزنك للهزيمة، أصبحت أنت اليوم تشفق على الصغار من الانتصارات المزيفة.
شكراَ فريق حسن شحاتة.. فليُكتب أننا قد شهدناكم، فليُكتب أننا قد اعتدنا النصر مرة.
التعليقات