نحتاج للخيال كما نحتاج لمزقات الماء وزفرات الهواء كي نعيش، فلولا الخيال ما قام صرحٌ ولا تراصت أبجدية لغةٍ ولا اكتملت رواية ولا تحقق طموح ولا أُنجز هدف...
الخيال هو نبراس الحقيقة والقبس الخفي للعلوم والمسكن الجميل للأمل والغذاء الخافت للبقاء، بهِ تكتمل الدوائر وتتصل الخطوط ويتحقق الشيئ المنشود، الخيال لربما هو الشيء الوحيد الذي يستطيعُ الإنسان أن يبنيه بدهاليز عقله دونما رقيب وبدون أن يخشى الحساب، هو حق مشروع لا يمكن لجائرٍ أن يصادره ولا لظالمٍ أن يعاقره، ولا تكبلهُ الأصفاد ولا تقيدهُ الظروف.....
بالخيالِ تنتشي الأرواح وتحلقُ في علياء الزمان والمكان معاً ، فلا قوانين تحول دون ذلك ولا محاكم تفتيشٍ تنصبُ للنيلِ مما فكرت فيه طالما أبقيتهُ حبيس خيالك ولم تبُح به، فقط اسدر بخيالك واغمض كلتا عينيكِ واعصف ذهنك حتى ترى غيهباً مظلماً كليلٍ بهيم، ظلاماً دامساً لا يَـميزُ منهُ أيُ خيط، هذهِ العتمة التي تراها هي الكون الآخر الذي يوازي الكون المهول المتسع والذي تسبحُ فيهِ الكواكب وتصطخبُ بداخلهِ حركةُ المجرات، فكلا الكونين لا حدود تأطِرُ اتساعهما، ولا مُـنتهى تُحَطُ فيهِ الرحال فتكون نهاية الشيئ، ولا لقياسٍ يلجمُ قُطرَ الدائرة فيحددُ مساحتها، فالمجالُ مفتوح والأفق رحِبٌ و واسعٌ كاتساعِ الكون وامتداده بالإتجاهات الأربعة.....
في الخيال شَذَر الشاعر كلامهُ وتألقَ الرسامُ بفنهِ وأبدعَ الكاتبُ بنثره، في الخيالِ ومنهُ تحقق الإختراع وتكسر المستحيل واضمحل اللامعقول، في الخيالِ ومنهُ برزت معالم الحقيقة وتجلى الـمُبهم وتوضحَ الإدراك وتسامى الهدف، فكل مُــخـتَـرَعٍ تشاهدهُ الآن أصله بذرةُ خيال وفسيلةُ طموح زرعها العالِـمُ في أديمِ عقلهِ فنمت شجرة وأينعت ثمراً فتوارفَ ظلها وتشابكت أدواحها، ونتيجةَ ذلك مشى الإنسانُ على القمر وأنزل مسبارهُ على المريخ وغزا أدق وعاء دموي بجسم الإنسان عبر قثطاره فأنجاهُ من الموت وبعث به الحياة، ونتيجةً للخيال رفعَ المهندسُ الصرح وناطحَ السحاب وتألقَ بالتصميم فلم يتوقف عند حدودِ المستحيل ولم يستسلمِ لعثراتِ الطريق، في الخيالِ ومنهُ كسبَ القائدُ المعركة وظَـفَرَ بالنصر وتحققتُ لهُ المعجزة ولربما بعتادٍ قليل وبمؤونةٍ بسيطة، وكي أكونَ منصفاً غير منحاز فمن الخيالِ وبهِ أيضاً صُنِع السلاح وشُطرت نواة الذرة وخطط المجرمُ لشنيعِ صنيعهِ فتخيلَ كيف ومتى وأين يقتل أو يسلب أو يغتصب فقد أسلفتُ سابقاً بأن الخيال لا حدود له ولا قانوناً يلجمهُ ولا تشريعاً يحدد امتداده.....
عبر الخيال ومنه نقشَ نزار قباني اسم حبيبتهِ على سور القمر وعلى سرجِ الكواكب حينما قال:(كتبتُ أحبُّكِ فوقَ جدارِ القمرْ.. وفوقَ الكواكِبِ تَمسحُ عنَها غُبارَ السَّفر .. حفرتُ حدودَ السَّماءِ حفرتُ الحَجرْ، ألم تقرئيها؟ على أوراقِ الزهرْ... على الجسرِ والنَّهرِ والمنحَدرْ)، فلولا ذاك الخيال الخصب الوقاد لما طار نحو حدود الشمسِ ولما اختال مشياً بحزام الكواكب ليرشح من كلامه شعراً نسافر بهِ مع خيال الشاعر حيثُ سافر وأبدع بالوصف وأجاد وكتب اسم حبيبته ....
حينما كان ألبرت أنشتاين يُعمر غليونهُ بالتبغ ويسدر بخيالهِ نحو الأعماق ويروح جيئةً وذهاباً بحجرةِ مكتبه وعلى منضدتهِ تكومت مئآت الأوراق وانسدلت من الأرففِ عشراتُ الكتب، كان حينها يبحر بخياله لأماكن لم يجد غيرهُ السفر إليها، ليخرجَ بنظريتهِ النسبية وليكتشف بأن سرعة الضوء ثابته حتى لو حُملت على ضوء آخر فإنها تبقى ثابته ولا تكتسب سرعتين! كان ينجزُ تلك التجارب جمعاء في مختبر خياله ومن خيالهِ أيضاً اكتشف أمواج الجاذبية وبرهن عليها والتي فسرت سباحة الكواكب والأقمار في مساراتها دونما تداخل مع غيرها، ليقول في الخيال كلاماً عظيماً إذ قال :(الخيالُ أهم من المعرفة، فالمعرفة محدودة بما نعرفهُ الآن وما نفهمهُ، بينما الخيال يحتوي العالم كله وكل ما سيتم معرفتهُ أو فهمهُ إلى الأبد).
وهناكَ خلفَ المحيطات على ناصية قارات العالم الجديد حيثُ كفاح المهاجرين اللذينَ غادروا بأجسادهم لتبقى أرواحهم المحملةِ على أسرجةِ خيالاتهم تطيرُ بهم نحو البيتِ والقرية نحو شجرة الأرزِ الشامخةِ على سفحِ الجبل ومن خلفها إنبلاجِ شمسِ الصباحِ وراءَ التلالِ وهي تنسدلُ بجمالٍ أخاذ على غاباتِ الوطن البعيدِ وأجملُ ما يجسدُ هذا الخيالِ هو كميةِ المشاعر الجياشة المرسومة في كلمات قصيدة (المواكب) لجبران خليل جبران حيثُ يقول:(هل جلست العصر مثلي بين جفناتِ العنب... والعناقيدُ تدلت كثريات الذهب... هل فرشتَ العُشبَ ليلاً وتلحفت الفضاء.. زاهداً فيما سيأتي ناسياً ما قد مضى)، هذا الخيال هو من سافر بجبران من الولايات المتحدة لقريتهِ حيث طاف حول دوالي العنب واغتسل بسلسبيل الجدول وعبَ من زلالِ مائهِ العذب، أليس جبران القائلُ بالخيال:(بين خيال الإنسانِ وإدراكه مسافة لا يدركها سوى حنينه) ....
ماهو الشِعرُ إن لم يعتليهِ الخيال ويبني أُسَ أبياتهِ، ماهو الأدبُ إن لم يكن الخيالُ وحيهُ ومستودعه، ماهو اللحنُ إن لم يتخيل الموسيقار تَهلُـلَ صدحهِ و طروبَ وقعهِ، ماهو الأمل لولا الخيال والذي بهِ يشتاقُ الأسير ويبني بخيالهِ اللقاء المنشود والذي بهِ يرتقي بالروحِ أيما ارتقاء كما فعل أبو فراس الحمداني في ديوان روميات والمبني على الخيال المحض.....
بالخيال تكتمل القصيدة وترتقي اللوحة وينتظم اللحن وينتهي الإكتشاف والإختراع، بالخيال يتجمل المكان حيثُ تلتقي الحبيب في مكانٍ هُيئَ كي يكون ربيعاً أزهراً يخلو من أي قيدٍ شرس فلا تثريب عليك في ذلك اللقاء بعد الجهدِ اللغوبِ الذي بُذِل كي تسافر لعالمٍ آخر تلتقي فيهِ بأعينها وبمحياها الجميل المشرقِ كشمسٍ لا تنطفئ وكقمرٍ لا يغيب، إنها منطقة الخيال مملكتك الخاصة التي يتمُ فيها اللقاءُ والصفاءُ والوداع كل ذلك وأنتَ لم تبرح مكانك لكنك بثوانٍ طِفتَ حول الكون الفسيح بهدوءٍ وسكوتٍ مُطبق لا أحد سواكَ يعلم ذلك ولربما عبر التخاطرِ أدركَ وعَلِم ذلك من إلتقيتهُ بخيالك حينها يكون الخيال قد انتصر وأثبت وجوده.
التعليقات