مصر .. أرض الحب والسلام .. لا تسعى إلى حرب ولا تحمل أطماعًا في حق الغير، لكنها تقف في حزم وشراسة أمام أي طامع أو متعد.
سنة 1274 قبل الميلاد كان يجلس على أريكة حكم مصر الملك رمسيس الثانى حيث كانت تمتد الامبراطورية المصرية لتشمل ما يعرف حاليا بالأراضى الفلسطينية واللبنانية وجزء كبير من الأراضي السورية يمتد إلى ما بعد دمشق الحالية.
وفى الشمال الشرقي وهى الجبهة دائمة الخطورة كانت هناك امبراطورية الحيثيين ومَلِكَهم كان يدعى "مواتللي الثانى" وهذا الرجل مثل غيره على مر التاريخ من قبله ومن بعده يحلمون بامتلاك الكنز الكبير "مصر".
والحقيقة أن كل المؤشرات كانت في صالح مواتللى حاكم الحيثيين، ذلك لأن قوة جيشه كانت تفوق قوة جيش رمسيس الثانى، فلو ألقينا نظرة سريعة على العدد والعتاد في هذه المعركة التى عُرِفت باسم المكان التى وقعت فيه وهى مدينة "قادش" لوضح الأمر، فقد كان عدد جنود رمسيس الثانى 20 ألف جندى بينما كان عدد جنود مواتللى 50 ألف جندي بينما كان عدد المركبات الحربية لدى رمسيس الثانى 2000 عربة أما في الجانب الآخر، أى لدى مواتللى قائد الحيثيين فكان عدد العربات الحربية 3700 عربة، ناهيك عن بُعد المسافة بين مقر حكم ملك مصر عن هذه البقعة على حدود الامبراطورية المصرية وما يلزم الجيش من وقت وجهد وتكاليف حتى يصل إليها.
ومدينة قادش تقع علي الضفة الغربية لنهر العاصي في سورية جنوب بحيرة حمص بعدة كيلومترات وشمال دمشق بعشرات الكيلومترات. وتلك المنطقة كانت حدود الامبراطورية المصرية، وكانت منطقة صراعات كما سنرى.
هذه المعركة مؤرخة في العام الخامس من حكم الملك رمسيس الثاني، فصل شمو، اليوم التاسع.
ولو عدنا إلى ما قبل ذلك بعدة عقود لوجدنا النفوذ الفرعوني قد بدأ ينحسر في آسيا في عصر أواخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة كنتيجة مباشرة للاضطرابات التي خلفتها الحرب الأهلية في مصر أثناء ثورة أخناتون الدينية في الداخل، مما جعل الحيثيين يستغلون هذه الاضطرابات لكي يقوموا بقيادة تحالف ضد مصر، وقد نجحوا فى إقامة هذا التحالف.
وبالتالي فقد حكام الامبراطورية المصرية الكثير من مناطق نفوذهم في آسيا الغربية، وذلك دون أن يتحرك الملك أخناتون لتلبية طلبات النجدة التي كان يرسلها إليه أمراء المدن السورية الموالون لمصر فيما عرف برسائل تل العمارنة.
وبعد وفاة الملك أخناتون وفشل ثورته الدينية والعودة إلى عبادة الآلهة التقليدية والإله امون مرة أخرى، تولى الفرعون حور محب مقاليد عرش مصر، حيث كان قائد الجيش في عهد توت عنخ آمون. و يعتبر حور محب آخر فراعنة الأسرة الثامنة عشرة الذي قام بتنظيم الشؤون الداخلية لمصر، والذي توفي دون وريث بعد أن نجح في إعادة الأمن الي البلاد.
تولى بعده أحد قادة الجيش وهو رمسيس الأول مؤسساً بذلك الأسرة التاسعة عشرة، وقد أخذ ملوك هذه الأسرة على عاتقهم استعادة النفوذ المصري في آسيا مرة أخرى.
فبعد وفاة الملك رمسيس الأول بعد سنتين من الحكم، بدأ ابنه وخليفته سيتي الأول حملاته العسكرية ضد الحيثيين، وكان يرمي الي صد التقدم الحيثي واسترجاع نفود الدولة المصرية في بلاد الشام التي حكمها المصريون منذ عهد تحتمس الثالث أثناء الأسرة الثامنة عشر، وبالفعل نجح سيتي الأول بعد عدة حملات عسكرية مع جيوش الحيثيين بالقرب من قادش في سوريا الحالية، وأخيراً عقد الصلح معهم كما ذكر في نقوشه على جدران معبد الكرنك بأنه قام بتوقيع معاهدة مع الحيثيين، ومات بعد 14 عاما من الحكم، وتولى الحكم من بعده ابنه رمسيس الثاني.
وقد شن الملك رمسيس الثاني حملته الأولى في العام الرابع من حكمه، ففى هذا العام عبر فلسطين ووصل بجيوشه الي نهر الكلب (بالقرب من بيروت) حيث أقام لوحة تذكارية هناك، واستعاد مقاطعة "أمور" من الحيثيين.
وبغرض السيطرة على بلاد الشام تحرك الملك رمسيس الثاني بجيوشه في العام الخامس من حكمه، وتابع تقدمه شمالاً وتواجه مع جيوش الحيثيين عند مدينة "قادش" على نهر العاصي وانتهت بتعادل الطرفين ولجوؤهما إلى التصالح لإنهاء الصراع على النفوذ الذي كلف كلا الإمبراطوريتين الكثير من الأرواح والخسائر.
وكانت البداية حينما خرج رمسيس الثاني بجيوشه من قلعة "ثارو" الحدودية وذلك في ربيع العام الخامس من حكمه. وبعد مرور شهر وصل بجيوشه إلى مشارف مدينة قادش عند ملتقى أحد فروع نهر العاصي، وكان الجيش يتكون من أربعة فيالق وهي فيالق "آمون" و"رع" و "بتاح" و"ست" وهي أسماء الآلهة الكبرى، بينما كان الملك مواتللي ملك الحيثيين قد حشد جيشاً قوياً انخرط فيه الكثير من الجنود بالإضافة إلى جيوش حلفائه ومن بينهم ريميشارينا أمير حلب، واتخذ من قادش القديمة مركزاً لجيوشه.
وبينما كان رمسيس الثاني معسكراً بجيشه بالقرب من قادش التي كانت علي مسيرة يوم واحد، إذ دخل معسكره اثنان من الشاسو (البدو) وادعيا أنهما فاران من جيش الملك الحيثي، وأظهرا الولاء لرمسيس الثانى، فسلمهما إلى رجاله ليستجوبوهما عن مكان جيوش الحيثيين، فقالا بأن ملك الحيثيين قد ابتعد عن الموقع وهو حاليا في حلب شمال سوريا.
وفي الواقع لم يكن هذان الشاسو غير جواسيس، وعلي أساس هذه الأخبار وبدون التأكد من صحتها أسرع الملك رمسيس الثاني علي رأس فيلق "آمون" وعبر نهر العاصي، ثم سار إلى مرتفع شمال غربي قادش وأقام معسكره هناك في انتظار وصول باقي الجيش ليتابع السير في أثر جيش ملك الحيثيين الذي كان يظن أنه في الشمال حسبما أخبره الجاسوسان.
وفي هذه الأثناء قبض جيشه على اثنين من جنود العدو الكشافة اللذين استخلصوا منهما الحقيقة وهي أن الحيثيين كانوا كامنين في قادش وأن جيوش الحيثيين كانت في طريقها لعبور نهر العاصي ومفاجئة الجيش المصري هناك.
وبالفعل عبر نصف الجيش الحيثي نهر العاصي وفاجئوا رمسيس الثاني الذي كان قد ارتكب خطأ تكتيكيا بترك مساحات كبيرة بين فيالقه فهاجموا فيلق رع ودمروه تدميرًا كاملًا وبذلك قطعوا الاتصال بين رمسيس الثاني وبقية فيالقه.
واتجه الجيش الحيثي بعد ذلك بعرباته الحربية وتابع تقدمه وهاجم فيلق آمون الذي فقد نتيجة ذلك العديد من جنوده.
وهنا وفي مواجهة خطر التطويق والهزيمة المحتمة قاد رمسيس بنفسه هجوماً ضد الحيثيين حيث سلك بالجيش ممراً ضيقاً ليلتف حول الحيثيين، ثم هاجمهم ودفع بهم حتي النهر وكانت اللحظة الفارقة في ذلك وصول إمدادات من جنوده.
وقد فاجأ ذلك الحيثيين ووجدوا أنفسهم محاصرين واضطر الحيثيون لترك عرباتهم الحربية والسباحة في نهر العاصي أمام هجوم الرعامسة.
وفي اليوم التالي دارت معركة أخرى غير حاسمة، وقد قال رمسيس الثانى في كتاباته أن مواتللي الثاني قد أرسل في طلب الصلح في ذلك اليوم، وبعد معارك ضارية بين الطرفين والخسائر الفادحة التي لحقت بهما اتفق الطرفان على الصلح.
انتهت المعركة باحتفاظ كل من الطرفين بنفس مكاسبه السابقة وخسائر فادحة لكلا الطرفين في المعركة. وعاد رمسيس آفلا إلى دمشق.
ذكر رمسيس الثاني انتصاره في المعركة، والتي قام بنقش تفاصيلها بالكامل على جدران معبد الرمسيوم وكذلك معبد الأقصر، بالإضافة إلى معبده بأبو سمبل (على جداره الشمالي فيما عرف بأنشودة معركة قادش).
وفي خلال السنوات العشر التي مرت بعد ذلك قام رمسيس الثاني بعدة حملات في آسيا واستولي على دابور بعد حصارها واضطر الحيثيون في النهاية إلى التراجع تاركين أكبر جزء من سوريا بدون حماية كافية.
وفي أعقاب وفاة مواتللي تولى ابنه الحكم وبعد عدة سنوات من الحكم حل محله عمه الملك خاتوشيلى الثالث وانتهز رمسيس هذه الفرصة وتقدم نحو تونيب أو توشب واستولي عليها.
وهنا بدأت قوة الأشوريين شمال العراق حاليا في اظهار نفوذهم وتهديد مناطق النفوذ المصرية والحيثية، مما حدا بالطرفين الي توقيع معاهدة سلام بينهما، وذلك في العام الحادي والعشرين من حكم الملك رمسيس الثاني 1258 ق.م والتي سجلت بالخطين الحيثى وبالخط الهيروغليفي.
تم توقيع معاهدة سلام مصرية حيثية رسمية في عام 1258 قبل الميلاد بين المصريين والحيثيين. تم نقش المعاهدة على لوح من الفضة، ووصل الينا منها نسخة من الطين نجا في العاصمة الحيثية "حاتوسا حتوساس" الموجودة جغرافيا في تركيا الحالية، ومعروضة في متحف الآثار في إسطنبول. وهناك نسخة طبق الاصل لمعاهدة قادش معلقة في المقر الدائم للأمم المتحدة كأول معاهدة سلام مكتوبة وموثقة في التاريخ. النسخ الحيثية منقوشة على ألواح الطين والنسخ المصرية مكتوبة على أوراق البردي.
التعليقات