إنسان.. كرس حياته من أجل خدمة الإنسانية طوال 67 عامًا، عمل خلالها على إرساء مبادئ المصالحة بين أفراد مجتمعه، كما سعى إلى تحرير وطنه من سياسات الفصل العنصري حتى تم اعتقاله، فكان من المستحيل أن يتوقع أحد أنه بعد اضطهاده وسجنه سيخرج إلى المجتمع مناديًا بالغفران والتسامح ووحدة الصف.
كان مثالًا واضحًا لأسمى معاني القيادة على مر العصور، فهو ملهم ومعلم ويتمتع بخصال الشجاعة وبُعد النظر والحكمة، حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1993م، وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2009م، بدء الاحتفال سنويًا به، وذلك بتحديد يوم 18 يوليو يومًا عالميًا يحمل اسمه.
إنه "روليهلاهلا مانديلا" أو "نيلسون مانديلا"، اشتهر باسم عشيرته "ماديبا"، إذ ولد في 18 يوليو من عام 1918م في قرية "مفيتزو"، بمقاطعة "أوماتاتا"، بإقليم "ترانسكاي" في "جنوب إفريقيا". نشأ "مانديلا" في ريف "ترانسكاي" في قبيلة "ماديبا"، وهي جزء من عائلة "تيمبو" الملك، وبعد وفاة والده نقل إلى أحد منازل الملك المعروفة باسم "المكان العظيم" التابع للوصي على العرش، حيث تم الاعتناء به.
عندما بلغ الثالثة والعشرين من عمره، انتقل إلى مدينة "جوهانسبورج"، وعمل هناك متدربًا في مكتب محاماة، كما انضم إلى المؤتمر الوطني الإفريقي.
أقدم "مانديلا" ورفيقه "أوليفر تيمبو" على فتح أول مكتب محاماة لذوى البشرة السوداء في مدينة "جوهانسبورج" عام 1952م.
ومن ثم، تعرض لضغوط تسلط السلطة البيضاء ـ آنذاك. ومن أغرب المواقف التي تعرض لها "مانديلا"، أنه في إحدى القضايا، لم يعترف به قاضي الصلح بصفته "محاميا"، ومنعه من استكمال القضية، وبرر القاضي ذلك بأن "مانديلا" دخل إلى المحكمة بطريقة متغطرسة، فقد أعتاد محامو تلك الأيام الركوع أمام رجال السلطة؛ وهذ ما لم يفعله "مانديلا".
تطورت الاحداث سريعًا في البلاد واجتاحت حالة من العنف الشديد بين السود والبيض، وذلك إثر تولي حكومة متشددة، تحاول تنفيذ فصل عنصري شامل. وعلى إثر ذلك التصعيد، وُجهت تهم التخريب لـ "مانديلا" ورفاقه من أعضاء المؤتمر الوطني، وبالفعل عقدت المحاكمة التي كان يطلق عليها اسم "ريفونيا" نسبة للمنطقة التي قبض عليهم فيها، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
سُجن "مانديلا" في جزيرة "روبن" المخيفة، وكانت الظروف قاسية والحراس صارمين، قضى "مانديلا" معظم فترة سجنه البالغة 27 عامًا في زنزانة رقم 5 ـ الزنزانة التي غيرت تاريخ الأمة ـ فكانت الزنزانة غير الآدمية لا تتعدى 6 أقدام، والسرير ليس سريرًا فعليًا، فكان يتكون من فراش وبعض البطانيات فقط. ورغم تلك الظروف كانت علاقة "مانديلا" بحراس السجن جيدة.
بعد فترة، ونظرًا للضغوط الدولية والداخلية على حكومة جنوب إفريقيا ـ آنذاك؛ بدأت الحكومة في التفاوض السري مع "مانديلا"، وتم نقله إلى سجن "فيكتور فيرستر"، كما تم إحضار طباخ خاص له، وفتح باب زيارته من دون قيد. في تلك الأثناء.. أدرك البعض أنه من المتوقع الإفراج عنه.
وبالفعل، تم الإفراج عنه وسط حالة من الذهول اجتاحت مدن "جنوب إفريقيا" بل لا مبالغة لو قلنا وسط ذهول العالم أجمع. خطى "نيلسون مانديلا" خطواته الأولى خارج بوابات سجن "فيكتور فيرستر"، ويده في يد زوجته مرفوعتين إلى الأعلى بعلامة القوة والصمود، وذلك في 11 فبراير 1990م، ليبدأ رحلة كفاح مختلفة لتوحيد الصف وإزالة ترسبات الكراهية بين أفراد المجتمع.
ومن ثم؛ بدأت المفاوضات بين أطراف الصراع على رسم طريق الديمقراطية للبلاد، والتوصل إلى اتفاق ملزم لجميع الأطراف، ونتيجة لذلك، تم الإعلان عن الانتخابات الرئاسية بمشاركة البيض والسود لأول مرة معًا لاختيار رئيس جديد للبلاد. وفي حادثة غيرت "جنوب إفريقيا" للأبد.. فاز "مانديلا" بالانتخابات وأصبح أول رئيس أسود للبلاد؛ وبدأ فور تسلمه السلطة على وضح حجر الأساس لدولة يعيش أفرادها في سلام وتسامح.
ليس امام أي فرد يطمح في تحقيق النجاح ـ سواء كان قائدًا أو فردًا في المجتمع ـ سوى أن يتحلى بقدر من التسامح ويعمل على نبذ الكراهية؛ لأنهما من عوامل تحقيق الانسجام والتجانس والوحدة بين أفراد المجتمع الواحد وبين الشعوب، ويساعد في تقارب الثقافات المختلفة. فإذا فقدنا القدرة على "التسامح" و"نبذ الكراهية" فقدنا إنسانيتنا ومشاعرنا الطيبة بين بعضنا بعضًا، وإلا أصبح العالم في حالة من حالات التأهب، وسيطر خوف كل طرف من الآخر على الجميع. هذا بالإضافة إلى أن ازدياد وتيرة الكراهية، قد يؤدي إلى انهيار المجتمع.
وختاما، أُزيح الستار عن تمثال لـ "مانديلا" عام 2007م في ساحة البرلمان الـ"جنوب إفريقي" تكريمًا له، وتخليدًا لمسيرته وإرثه الفكري الذي تركه للأجيال المتعاقبة.
التعليقات