هل أخطر ما يهدد أي دولة هو جيشٌ يعبر حدودها؟ أم مواطنٌ يعيش بينها ويحمل ولاءه لغيرها؟
من هنا وُلد التعبير الأشهر: "الطابور الخامس"؛ ذاك المصطلح الذي صار يُستخدم لوصف الخونة والعملاء والمندسين، لكنه في الأصل لم يكن نظرياً ولا مجازياً، بل وُلد في قلب معركة حقيقية.
الشرارة الأولى.. مدريد تحت الحصار
في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، كان الجنرال إيميليو مولا، أحد قادة القوميين، يحاصر العاصمة مدريد بأربعة طوابير من قواته. وفي تصريح لإحدى الصحف قال بثقة: "نحن نهاجم المدينة بأربعة طوابير من الخارج، لكن لدينا طابوراً خامساً بداخلها سيسهّل لنا النصر".
كان يقصد سكاناً وضباطاً ومسؤولين داخل مدريد موالين له، ينقلون الأخبار، ويزرعون الشائعات، ويُضعفون الروح المعنوية للمقاومين. لم يطلق عليهم جواسيس أو خونة؛ بل منحهم اسماً صار فيما بعد أشهر منه هو شخصياً: الطابور الخامس.
المصطلح يكبر ويتحول إلى سلاح سياسي
من إسبانيا انتقل التعبير سريعاً إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تبنّته الصحافة البريطانية والأمريكية لوصف المتعاطفين مع النازية داخل بلدانهم. وفي العالم العربي، بدأ استخدامه منذ خمسينيات القرن الماضي مع تصاعد الصراعات السياسية، ليصبح اليوم وصفاً حاضراً في كل خطاب يتحدث عن المتعاونين مع العدو أو أصحاب الأجندات الخفية.
وهل هناك حقاً "أربعة طوابير" قبله؟
لا. هذه كانت مجرد إشارة من مولا إلى أربعة تشكيلات عسكرية فعلية تحاصر المدينة، وليست تصنيفاً استراتيجياً ثابتاً كما يظن البعض. لاحقاً حاول البعض تفسيرها مجازياً على أنها: قوات برية، بحرية، جوية، واحتياط… ثم يأتي بعدها الطابور الخامس. لكن الحقيقة التاريخية أبسط من ذلك بكثير: هو مجرد تعبير وُلِد في تصريح عابر، لكنه عاش أطول من الحرب نفسها!
الطابور الخامس اليوم.. سلاح بلا زي رسمي
لم يعد الطابور الخامس يعتمد على الجواسيس التقليديين فقط، بل توسّع ليشمل:
الحرب النفسية عبر الإعلام ومنصات التواصل
تسريب الشائعات
بث الإحباط أو التحريض داخل المجتمع
العمل لمصلحة قوى أجنبية تحت غطاء سياسي أو اقتصادي أو ثقافي
وهنا تكمن خطورته؛ فهو عدو بلا وجه، يتحرك بلا سلاح ظاهر، لكنه قد يُسقط دولة من الداخل قبل أن يُطلق رصاصة واحدة من الخارج.
كيف نواجه الطابور الخامس؟
الخطر الحقيقي للطابور الخامس ليس في وجوده، بل في سماح المجتمع له بالعمل بحرية دون وعي أو مقاومة. فالمندسون لا ينجحون إلا حين تتراجع الثقة بين المواطن ومؤسساته، وحين يغيب الوعي العام، وحين تُترك الساحة للشائعة قبل الحقيقة، وللصوت العالي قبل العقل الهادئ.
إن مواجهة هذا الخطر لا تتم بالعنف أو التخوين العشوائي، بل بـسياسة تحصين مجتمعي تقوم على ثلاثة أسس:
1. شفافية الدولة في التواصل مع مواطنيها، لأن المعلومة الدقيقة هي العدو الأول للشائعة.
2. مسؤولية الإعلام في التمييز بين النقد البنّاء والهدم المتعمد، وعدم التحول إلى منبر لمن يريدون إشعال الفتنة.
3. وعي المواطن بأنه قد يصبح – دون أن يدري – جزءاً من الطابور الخامس لمجرد إعادة منشور مجهول المصدر أو الترويج لخطاب تحريضي.
فالخيانة لم تعد تحتاج إلى سلاح.. يكفي هاتف متصل بالإنترنت!
وهكذا، يبقى السؤال مفتوحاً لكل واحد منا: هل نحن جزء من الحماية.. أم مجرد ثغرة ينتظرها الطابور الخامس؟
التعليقات