في القراءة تلاقي الجغرافيا والتاريخ عبر الإنسان المدرك لأبعاد الزمان وحقائق المكان، وعلاقات الأمس باليوم وهو يفكر في الغد، هكذا بدت لي الفكرة الرئيسية في الدورة الثانية والخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي يقام تحت شعار "فى القراءة حياة" حيث احتفى هذا العام بموسوعة (مصر القديمة) لعالم الآثار المصري الراحل الدكتور سيلم حسن، لتستكمل مبادرة التوعية العميقة بالوطن، التي بدأتها إدارة المعرض العام الماضي حينما اختارت العلامة المصري الدكتور جمال حمدان ليكون شخصية المعرض وطبعت الهيئة المصرية العامة للكتاب موسوعته الشهيرة (شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان) وتم بيعها بسعر مدعم للجمهور، وهو ما حدث مع موسوعة (مصر القديمة) هذا العام انطلاقا من أهمية قراءة التاريخ، باعتباره أعظم معلم للبشرية فهو العمق الاستراتيجي لمن يبتغي صناعة المجد في الحاضر و المستقبل ،وهكذا أدارت هيئة الكتاب حوارا صامتا بين جمال حمدان وسليم حسن لتسدد أهدافا قيمة في معركة الوعي!
لا شك ان هذا الحوار الصامت بين عبقرية الجغرافية ودروس التاريخ يقرأه المصريون على صفحة النيل اليوم ، وفي وعيهم أن (الذين لا يعتبرون من أخطاء الماضي، مكتوب عليهم تكرارها مرة أخرى) على حد قول المؤرخ ألفرد ويتني جريسولد، لكن (عندما يكرر التاريخ نفسه فإن سعره يتضاعف) بحسب الكاتب الامريكي مارك توين.
كان الدكتور سليم حسن ( 1893 -1961م) الذي يعتبر ثاني عالم آثار مصري يساهم في تأسيس علم المصريات باللغة العربية بعد أحمد كمال باشا ، قد بدأ تأليف هذه الموسوعة بعد إحالته للمعاش و هو في السادسة والأربعين من العمر، نتيجة خلاف مع القصر الملكي على مجموعة قطع أثرية طالب بها الملك فاروق بعد أن أعادها الملك فؤاد لتعرض في متحف القاهرة.
وتعتبر هذه الموسوعة الوحيدة المتكاملة في التاريخ المصري القديم التي وضعها وألفها عالم واحد بمفرده، وتناول فيها شرحاً دقيقاً وتحليلاً مستفيضاً عن مراحل الحضارة المصرية منذ عصور ما قبل الأسرات إلى قرب نهاية العصر البطلمي، وذلك في 16 جزءاً اضيف لها، في طبعة مكتبة الأسرة ضمن مهرجان القراءة للجميع عام 2000، جزئين عن كتاب الأدب المصري القديم ليصبح عدد مجلدات الموسوعة 18 مجلداً.
هذه الموسوعة التاريخية القيمة قال عنها مؤلفها: "لا غنى عنها لكل المتخصصين والدارسين لتاريخ مصر والآثار المصرية القديمة، ولا غنى عنها أيضا لكل المثقفين الراغبين فى التزود بالمعرفة التاريخية لجذور الحضارة المصرية التى تغلغلت بين الشعوب التى تسكن أراضى المنطقة الجغرافية الواسعة الممتدة من مصر إلى السودان وليبيا والمناطق السورية وبلاد النهرين وآسيا الصغرى وجزر البحر المتوسط واليونان".
لم تكتفي الهيئة المصرية العامة للكتاب بطباعة الموسوعة وانما حشدت عددا من علماء وأساتذة التاريخ لقراءتها وتحليلها طوال أيام المعرض، ضمن «ملتقى الكتب» أحد فعاليات البرنامج الثقافي للمعرض عبر منصته الرقمية. وقد استهلت هذه الفعاليات بقراءة في هذه الموسوعة قدمها الدكتور ممدوح الدماطي وزير الآثار الأسبق ،موضحا إنها تناولت فترات عدة من الحضارة المصرية، حيث بدأت بفترة عصر ما قبل التاريخ ثم بداية التاريخ مرورا بعصر الدولة القديمة والعصر البهنسي والانتقال الأول ثم الدولة الوسطى والازدهار .
كما تناولت موسوعة (مصر القديمة) عصر الانتقال الثاني ثم احتلال الهكسوس مرورا بعصر التحرير وعصر الدولة الحديثة والانفتاح على العالم ثم عصر الانتقال الثالث ثم الحكم النوبي والحكم الفارسي، واستعرضت نهاية الحضارة الفرعونية حتى الإسكندر الأكبر وتأسيسه إمبراطورية مقدونية ومصر جزء منها ثم دولة البطالمة.
وهكذا استمر النقاش عن تاريخ مصر القديم طوال المعرض، ويعتبر امتدادا لنقاش العام الماضي حول جغرافيتها لأن (شخصية مصر) كانت رد حمدان على هزيمة 1967 والتي رآها عارضة، فراح يثبت بالجغرافيا، ويستدعي التاريخ، ليؤكد أن مصر قادرة على أن تعبر كل انتكاس، أو تحدي، ماضية في سرديتها المتفردة لا تلتفت إلى عوائق، لذا فإن الربط بين حمدان وحسن هو رباط بين المكان والزمان، أحدهما قضيته الجغرافيا، والآخر قضيته التاريخ ،و في رواية الصراع على مصر والمنطقة يطل على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا، وإنجاز الأنسان، وإن شئت فقل الجغرافيا عندما تصنع التاريخ!.
التعليقات