بلدة صغيرة في جنوب إيطاليا إسمها "سانتا ڨيتوريا" تتعرض لمحنة بالغة عشية سقوط نظام موسوليني الفاشي، ففي أيام قليلة ستصل فرقة احتلال ألمانية لتصادر مخزون البلدة من النبيذ.
يعني ذلك أن سكان البلدة الفقراء سيفقدون مصدر رزقهم الوحيد، وسيكون عليهم مواجهة سلطة الجوع، وهي سلطة لا يمكن تملقها أو مقاومتها، هذه هي القضية الأساسية لفيلم "سر سانتا ڨيتوريا" والتي قرر صناعه أن يقدموها ككوميديا.
مشكلة البلدة أنها لا تستطيع مقاومة الألمان بالسلاح، فهي خالية من السلاح خلوها من الأبطال المستعدين للموت، لكن العمدة السكير"بومبوليني"، والذي لا تصفه زوجته الحانقة غير بالمهرج، يتفتق ذهنه عن حيلة بديهية، "سنخفي النبيذ بعيدا عن أعين الألمان".
ولكن أين؟..
بعد مداولات عبثية يقرر رجال البلدة أن المكان الوحيد الصالح لإخفاء مليون زجاجة من النبيذ هو الكهف الروماني العتيق القابع في بطن الجبل المحيط بالقرية. سيخزنون الزجاجات في ممرات الكهف ويسدون الممرات بالطوب والطين. ولأنهم إيطاليون لا يفوقهم أحد في فن البناء سيجعلون الحوائط تبدو وكأنها بنيت من آلاف السنين.
ها هو ميراث روما العريق يشارك في المعركة، كل ما عليهم الآن نقل الزجاجات من قبو التخزين إلى أعلى الجبل، وإمعانا في الخداع سيتركون في القبو ثلاثمائة ألف زجاجة، وهو رقم قابل للتصديق من قبل الألمان الجشعين.
ولكن كيف؟..
هنا تتحول الكوميديا إلى ملحمة. يقوم الضابط الهارب من الألمان "توفا" باستخدام خبراته العسكرية في تنظيم الآلاف من سكان البلدة في صفوف طويلة تمتد من قبو النبيذ حتى الكهف الروماني. وفي مشاهد من أعذب وأعظم ما أنتجته السينما يقف سكان "سانتا ڨيتوريا" لثلاثة أيام كاملة لنقل المليون زجاجة من يد ليد.
الكل شارك، عجائز، حوامل، أطفال، معاقون، حتى الكونتيسة الأرملة والتي أمم الفاشيون أملاك أبيها شاركت في العمل الشاق، وكأنها تعتذر لسكان البلدة المتشككين فيها عن السنين الطويلة التي كدحوا فيها ليزداد أبوها ثراء.
ويصل الألمان..
على مرأى ومسمع من سكان البلدة المتجمعين في ساحتها ينسحق "بومبوليني" تماما أمام الضابط الألماني. يبالغ في الترحيب به، يثني على عظمة ألمانيا ويتمنى النصر للرايخ.
فبومبوليني الذي تصفه زوجته بالمهرج يعلم جيدا أن كرامته الشخصية لا قيمة لها أمام مصير بلدته. وفي اليوم التالي يصطحب الضابط الألماني لمعاينة مخزون البلدة من النبيذ. ويتلوى "بومبوليني" على الأرض مبالغا في إظهار الحسرة عندما يخبره الألماني أنه سيصادر ثمانين بالمائة من المخزون.
ويضحك الضابط المتسامح من مساومات بومبوليني له، وتكاد الخطة أن تنجح.
وبينما يهم الألمان بنقل الثلاثمائة ألف زجاجة ومغادرة المدينة يصل للضابط تقريرا مخابراتيا يؤكد أن مخزون "سانتا ڨيتوريا" لا يقل بأي حال من الأحوال عن مليون زجاجة.
هنا يكاد الضابط يصاب بالجنون، لقد خدعه "بومبوليني" المهرج طوال الوقت. ويندفع الجنود الألمان لاقتحام كل بيوت البلدة بحثا عن النبيذ، حتى بيت الكونتيسة التي وقع الضابط في هواها يتم تفتيشه.
ولأنه في النهاية ليس سوى محتل، يتخلى الضابط عن تسامحه ويقوم بتعذيب بعض رجال القرية ليستخلص منهم اعترافا بمكان النبيذ. وليمعن في إذلال "بومبوليني" يجعله يختار بنفسه من سيتعرضون للتعذيب.
لكنه بالطبع لا يعرف أن من اختارهم له "بومبوليني" ليسوا سوى مجموعة الفاشيست التي حبسهم الأهالى في مجلس البلدية ولا يعرفون شيئا عن الخطة، وكأن الأقدار تنتقم بطريقتها من الفاشيين الذي تسلطوا على الناس لسنوات.
وتأتي ساعة الرحيل. وكما تجمع كل سكان البلدة عند وصول الألمان، تجمعوا أيضا عند رحيلهم. وفي لحظة غضب جنونية يسحب الضابط مسدسه ويضعه في رأس "بومبوليني" مهددا له بالقتل إن لم يخبره عن مكان النبيذ، ويجيبه العمدة المهرج بعينين لا ترمشان أنه لا يوجد نبيذ غير ما قدمه له.
يصرخ الضابط في أهل البلدة مهددا لهم لكنه لا يلقى غير الصمت. فيلقي بسؤال كأنه إعتراف بالهزيمة:"أين نوع من الناس أنتم؟". ويجبره الصمت على إعادة سلاحه لجرابه.
ويقدم "بومبوليني" للضابط زجاجة ملفوفة بشريط يحمل ألوان العلم الإيطالي كهدية وداع. فيسأله الضابط ساخرا "ألستم أنتم أولى بهذه الزجاجة؟"، وهنا يبتسم "بومبوليني" قبل أن يطلق على خصمه رصاصة الرحمة بقوله: "لا بأس، فهناك مليون زجاجة أخرى".
لقد انتصرت "سانتا فيتوريا" لأن أهلها كانوا من نوع الناس الذي لا يستطيع الضابط الألماني المتغطرس فهمه. ناس لا يبحثون عن البطولة ولا المجد، فقط يريدون الحياة.
وقد علمتهم الحياة كما علمت كل الشعوب الأصيلة أن كل الأمجاد زائلة، وأن البطولة الحقيقية في الاستمرار وسط الظروف القاسية.
التعليقات