التقطتُ هاتفي واتصلتُ عليهِ، خلال أجزاء الثانية تذكرتُ بأنهُ لن يجيب، فتوقفتُ عن ذلك والحَزَنُ يأطرني، لكنني يومياً أحادثه، أساررهُ، أنصتُ لقوله ..... يوميا أضحك معه، ومراتٍ أبكي، أتفاعلُ لحديثه ويتفاعلُ لحواري ......
كنتُ يومياً أتواصل معه بآناء الليلِ وبأطراف النهار، حينما كان يداهمني الملل أو تعلوني الكئآبة أو يستبيحني الإضطراب كنتُ أتصلُ بهِ فهو الأذنُ التي تستمعُ لهمومي دونما ضجر، وهو المرشدُ الصادق لي حينما تجنحُ سفينتي بإتجاه البحر اللجي الهائج بعواصفهِ وعواطفه فتراهُ يستحيلُ لي فناراً يرشِدُ سفينتي ويُنجيها من التيهِ والضياع، لقد كان المحطةُ التي تنوخُ فيها ركابي وتستظلُ تحت دوحِها المديد روحي هرباً من مسير وعثاءِ السفر في هذه الحياةُ المضنية....
كان مرآتي ومضارعي فتراهُ يفرحُ لفرحي ويحزنُ لأشجاني، إن تألمتُ تألم وإن توجستُ توجس وإن غضبتُ فإنهُ سرعان ما يُلجمُ غضبي بحكمتهِ المعهودة وبكلماتهِ المقنعة فيحولني من شخصٍ حمئٍ لذلك الحملِ الوديع ...... هو السميرُ والنديمُ والخليلُ والصاحب، هو الورقة البيضاء التي أفرغُ عليها تعابير أشجاني وآلامي وبهجتي وأفراحي، ما بين أسطرها أكتبُ بحبري السري أسراري فلا يقرئها إلا هو ومن ثمَ يوجهني ولربما ينقذني .... إنتبه لا تفعل ذلك! ... خذ نصيحتي وقل هذا الكلام ..... لو كنتُ مكانك لفعلت كذا وكذا ......
إن صدى كلماتهِ لما تزل تجولُ في محيط ذاكرتي بنبرةِ صوتهِ المعهودة التي تسكن في مهجتي وكياني، فنحن مهما بلغنا من معرفةٍ في هذه الحياة وأياً كانت تجاربنا وخبراتنا لكننا لا نزال نحتاج لمن ينصحنا ويعيدُ تلاوة التعليمات أمامنا، نحتاج لمن يرشدنا كما يرشد ضوءُ النجمِ ذاك المسافر الذي يذرعُ الصحراء فيكون لهُ المنقذ حين احتدامِ الشتات وحينما يضيعُ بهِ الإتجاه فيختلطُ شمالهُ مع جنوبه وشرقهُ مع غربه، ولكم كان هذا الضوء البسيط بمثابةِ طوقِ نجاةٍ وسط زوابعِ العفراء وليلها الـمُدلهمِ فتراهُ كاليدِ التي امتدت بالخفاء كي تنقذنا في لحظةٍ نكون إليها أشد المحتاجين لهذا الإنقاذ .…..
يجب أن لا نكابر أبداً حينما نشعر بالضعف من الداخل، فنحن مازلنا بشراً ولما نزل نسكن الأرض بعد، وطالما أننا كذلك فإننا سنضعف ونتألم ونخاف ونتوجس ونشعر بالوحدانية وسيغزونا الإكتئاب، وسيعشش على أغصان قلوبنا مللُ رتابةِ الحياة وسنشعر بالإضطراب مما يحيطنا، ولن تكون مناصبنا وأموالنا وأصلابنا مصداً لهذه المشاعر فنراها تارةً تغزونا وتأسرنا تارةً أخرى قد ننتصرُ عليها و لربما تنتصرُ علينا، في كلا الحالتين نحنُ في خضمِ معركة الصراع ما بين الشهوة و العقل، ما بين الخلود والفناء، ما بين الحكمة و الجهل...
بعد كل ذاك كنتُ أقلب هاتفي بين يدي، أنتظر الشيئ المستحيل، أعلمُ بأنه لن يكون أبداً، لم أحسِب وأعدُ عدد مرات دخولي لملف الصور وتقليبي لصورٍ قديمةٍ إلتُقِطت بلحظاتِ سعادةٍ و فرح .... كأنني أراها للوهلةِ الأولى، أكبرها بإصبعيا ثم أتأمل التفاصيل الدقيقة فأتذكر بأن الأمر قد مضى الآن والزمن لن يعود للوراء فأغلقُ ملف الصور وما هي إلا ثانيتين فقط لا أكثر فأعاود ما فعلتهُ قبل قليل ... هكذا وهكذا، مراتٍ تلو المرات حتى أتيقن الحقيقة أخيراً وتزول عني غشاوةُ الذكريات، هنا فقط أمتنع عن تكرار فعل ذلك، فأقفلُ هاتفي وأضعهُ في جيبي وأمضي في طريقي محاولاً شق الريح التي تصادفني من خلال تقاسيم و تعابير وجهي الذي اعتلاهُ الكَربَ والحَزن ......
نعم غادرني صديقي تاركاً خلفهُ محيطاً عميقاً من الذكريات، إنهُ هناك حيث تسكن كوكبةُ (صليب الشمال) حيثُ ترتاحُ ذراتُ السحاب وبلوراتُ الثلج، إنهُ هناك عند مربطُ خيوط الشمس حينما تلامس غلاف كوكبنا فتتأينُ و تتحول لحزمةِ ضوءٍ ملونٍ بديعِ المنظر يتراقصُ بكلِ عنفوانٍ بين ظهراني الأفق الجميل إذ تتداخل ألوانها الحمراء والزرقاء والخضراء لتصنعَ ذاكَ الشيئَ البديع إنها (أورورا) تلكَ الجميلةُ الغافيةُ في حضنِ الأفق وكأنها حُليةً تتزينُ و تزدانُ بها السماء ...... رغم كل آلامي وأشجاني وإرهاقي لكنني حينما أحدقُ نحو السماء كي أشبع ناظريا من (أورورا) حينها أدرك بأن صديقي يقرئني السلام الآن ، فتجدني والدمع يشقُ أخدود خدي وعينايا شاخصتان تراقبُ تراقُصَ (أورورا) المهيب حينها تتحركُ شفتايا متمتمةً بهمسٍ خفيض فأقول : لك السلامُ ياصديقي ...لك السلام .........
التعليقات