قضينا نحن العرب قرونا عديدة منشغلين عن حاضرنا بالاتجاه إلى الماضي، إما تفاخرا بما أنجزه أسلافنا في عصورهم الذهبية أو صراعا بين طوائف وفرق مذهبية، لم نجن منها إلا الدماء، ولكن حدث خلال الأيام القليلة الماضية تحول نوعي نحو المستقبل، بنجاح مسابر الأمل الإماراتي في مهمته الفضائية، الذي أرسل يوم الأحد الماضي أول صورة للمريخ يلتقطها أول مسبار فضائي عربي، من ارتفاع 25 ألف كيلو متر عن سطح الكوكب الأحمر.
وهو تطور يستحق ان نقف أمامه وقفة إجلال، لأنه ليس فرقعة إعلامية ولا حتى مبادرة لتحقيق انجاز في موسعة الأرقام القياسية، وإنما يشكل قفزة عربية نوعية في اتجاه المستقبل وانجاز علمي لصالح البشرية، لأسباب حقيقية:
أولا: لأن هذه أبعد نقطة في الكون يصل إليها العرب عبر تاريخهم حيث قطع المسبار مسافة شاسعة قاربت الـ 500 مليون كيلو متر، في رحلة استغرقت سبعة أشهر،
ثانيا: أن 50% البعثات التي حاولت قبله تحقيق هذا الهدف فشلت في الوصول إلى مدار المريخ، من ثم فهو نجاح كبير في امتحان عسير.
ثالثا: أن هذا النجاح ثمرة لجهود مضنية استغرقت، أكثر من 5 ملايين ساعة عمل لنحو 200 مهندس ومهندسة إماراتية، بهدف إعطاء أمل لجميع العرب بأننا قادرون على منافسة بقية الأمم والشعوب، على حد قول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء.
فمنذ اليوم الأول للمشروع كان هناك قرار واضح، بأن يتم تصنيع المسبار وعدم شرائه جاهزاً، وقد تحول هذا التحدي إلى فرصة لإلهام جيل من العلماء والباحثين بمجال العلوم والتكنولوجيا لإحداث نقلة نوعية أو المساهمة في بناء اقتصاد مبني على المعرفة، وتأسيس كوادر وطنية تعمل في المشروع عبر تدريب وإعداد باحثين إماراتيين للإسهام في مجال استكشاف الفضاء، بالتعاون مع الشركاء العلميين الدوليين للمشروع، بالإضافة إلى تدريب وإعداد مهندسين لتطوير أنظمة الفضاء، بما يؤدي إلى تجهيز البنية التحتية اللازمة لبرنامج مستدام لاستكشاف الفضاء الخارجي، وبذلك تكون الإمارات أول دولة عربية تصنع الأقمار الصناعية بشكل كامل.
رابعا: أن مكونات المسبار "تمثل أهم وأجود ما يمكن صناعته من تكنولوجيات، وهي إن صح التعبير غير قابلة للعطل؛ لطبيعة الرحلة التي تقوم بخدمتها". على حد وصف مستشار وكالة الفضاء الروسية في الشرق الأوسط، الدكتور حسين الشافعي.
خامسا: أن الأهم في هذا الإنجاز مقارنة بما سبقه في هذا المجال، هو ما تعهدت به الإمارات بأن تكون كل المعلومات التي يحصل عليها المسبار لاستكشاف السطح الخارجي للمريخ، متاحة بالمجان على المنصات الإلكترونية لكل المهتمين بهذا المجال، وسوف تبدأ قريبا المرحلة التالية حيث سيتم وضع المسبار في المدار العلمي لبدء مهمته في رصد الغلاف الجوي للمريخ وبخاصة حركة الغيوم وبخار الماء والغازات وتسرب الاكسجين والنيتروجين علي مدار الساعة ، ومحاولة تفسير أسباب تقلص الغلاف الجوي للمريخ.
ففي هذه المهمة يستهدف المشروع جمع 1000 جيجابايت من البيانات والمعلومات الجديدة عن الكوكب الأحمر ليضعها في متناول 200 مؤسسة علمية وبحثية مجاناً، وهو أمر يستحق الإشادة، حيث لم يسبق لدولة أخرى أن قامت بمثل هذا العطاء على الإطلاق، ومن ثم فإن هذا الإنجاز يتخطى الإمارات والعالم العربي والإسلامي، لتصل ثماره إلى العالم بأثره.
سادسا: أن هذا النجاح يجعل من بلد عربي، خامس دولة في العالم تصل إلى المريخ، ليس لمجرد دخول التاريخ بهذا الحدث، وانما هو جزء من جهودها لتطوير قدراتها العلمية والتكنولوجية، فلدى لوكالة الإمارات للفضاء خطة طموحة لبناء مستوطنة بشرية على المريخ بحلول عام 2117.
كما يرسخ هذا المشروع اهتمام شباب الإمارات والعالم العربي بدراسة العلوم والرياضيات والهندسة والتكنولوجيا والتخصص فيها، ويسهم في بناء كوادر عالية الكفاءة في مجال تكنولوجيا الفضاء والابتكار والأبحاث العلمية والفضائية.وإحداث تحولات جذرية في تطوير القدرات العربية في مجال البنى التحتية الهندسية والصناعية والعلمية والبحثية، بهذا القطاع.
فقد أطلقت الإمارات عام 2017 برنامجا متكاملا للفضاء، يتضمن إنشاء أول مدينة علمية لمحاكاة الحياة على الكوكب الأحمر ومتحفا للمريخ، إضافة إلى مختبر تجارب انعدام الجاذبية، وبرنامج لاستكشاف الفضاء، وإطلاق أكبر منتدى لعلماء المريخ في العالم، كما يتضمن البرنامج إنشاء مجمع لتصنيع الأقمار الصناعية، وخطة لإعداد رواد فضاء إماراتيين.
وتم بالفعل إعداد رائدين فضاء من بين عشرات من أبناء الدولة خضعوا لاختبارات عديدة قبل اختيارهم للقيام بهذه المهمة.
فنحن إذن أمام عمل علمي مخطط يسخر المال لخدمة البشرية، يستحق التحية والتقدير.
التعليقات