تمنحُ الطبيعة الجغرافية أحياناً نوع من الخصوصية لإقليمٍ ما ، فيصعُب الولوجِ إليهِ لبعدهِ أو لوعورةِ تضاريسه وقد يستغلُ الحاكم هذا الأمر فيشرعُ بعزلِ مصرهِ هذا عن باقي الأمصار ويتذرعُ بالخوفِ من الغزاةِ عسكراً أو فكراً وهذا ما فعلهُ اليابانيون قديما حينما تقوقعوا على أنفسهم في جزيرتهم و انغلقوا على ذاتهم فيها خشيةَ التواصلِ مع الأقوامِ الأخرى خوفاً من غزوٍ فكري أو عسكري يفدُ إليهم ، فكثيراً ما يكون الغزو الفكري أشدُ ضراوةً و خطورة من الغزو العسكري نفسه إن لم يكن أشدُ فتكا ، وهذا ما دفعَ أقواماً عدة بالإطباقِ على ذاتها خوفاً من فكرٍ هادم يحطُ برحالهِ فيها فيعجلُ من تفسخ المجتمع و تفككِ عرى وثاقه ، فالغزو العسكري ليس بالضرورةِ أن يكتب لهُ النجاح فكثيراً ما يتمُ دحرهُ حتى لو طال زمنُ مقاومته ، بينما الغزو الثقافي أو الفكري - سيان أيا يكن المسمى- فإذا ما تمكن من المجتمع فإنهُ يصيبهُ مقتلا ، حيثُ تنشأ الأفكار المضادة للفكر السائد في الأمه من الداخل.
إن مصطلح الغزو الثقافي مصطلح جديد نوعاً ما ظهر بالقرن الماضي حينما بدأت المجتمعات البشرية تتطور عبر وسائل الإعلام المقروء و المسموع و المُشاهد، و أصبح أكثر فهماً حينما صارت الشبكة العنكبوتية متاحة للجميع ، فتاريخياً الغزو الثقافي موجود منذ القدم ولكن ليس بمسماه الحالي ولكن عبر أنماط معينة وعلى سبيل المثال لا الحصر لذلك دار الحكمة ببغداد والتي أنشِئت في العصر العباسي ليبدأ معها عصرُ الترجمة لأهم ما كتبهُ فلاسفة اليونان القدماء كسقراط و تلميذيهِ أفلاطون و أرسطو و غيرهما من الفلاسفة القدماء ذوي التوجه الداعي لتحرير العقل والتفكير بالمبادئ الأساسية لجوهر المادة ، حيثُ أغنت هذه الترجمات مخزون دار الحكمة في بغداد والتي رشَحَتْ بعضاً من تعاليمها لجماعة المعتزلة والذين سمو بأهل الكلام المعتزلي ليقع الجدال الفلسفي الكبير بعصر الخليفة العباسي المأمون بمسألة القرآن الكريم هل هو مخلوق كما تبنى ذلك جماعة المعتزلة أم أنهُ منزل كما تبنى هذا بقية الفقهاء الآخرين والذين ذهب بعضهم لاتهامِ دار الحكمة وما حوته من ترجمات يونانية بتسميم الفكر الإسلامي الطبيعي وقتذاك كما ادعى ذلك الإمام أحمد بن حنبل مهاجماً الفريق الآخر والذين منهم الجاحظ ، ولنا أن نقول بأن هذا مثال بسيط من أنواعِ الغزو الثقافي لكننا لا نستطيع سوق الاتهامِ المطلق عليهِ إذ كان لهذه الترجمات دور إيجابي كبير وفاعل في تنويع و تنوير الفكر الإسلامي و تنميتهِ نحو علوم ومجالات أخرى غير الفلسفة وعلم الكلام كالطب و الفلك والخوارزميات .
ومن الأمثلة التاريخية لمحاولة صد الغزو الثقافي هو ما قام به الإمبراطور الصيني تشين شي هوانغ حينما فكر بضرب سور حجري عظيم يذبُ عن مملكتهِ جحافل الغزاةِ كذلك يذبُ عنها وصول أفكارٍ جديدة مخربه لمجتمعهِ عبر متسللين لمملكته وبالأخص الأفكار الهندوسية القادمة من الهند جنوباً والتي كان يرى فيها هدماً لمعتقدات شعبه ولهذا التخوف الدور الرئيس بإنشاء سور الصين العظيم.
قد لا يسعنا الوقت لسردِ صنوفِ و أشكالِ الغزو الثقافي الذي نعيشهُ في عالمنا الافتراضى هذا ، والذي تحولت فيه القارات السبع لمجرد قرية صغيرة ينتشرُ فيها الشيء كانتشار النارِ في الهشيمِ ولنا برقصةِ ( كيكي) مثال على ذلك وقبلها تحدي دلو الماء البارد وغيرها و غيرها ، هذا من حيثُ الفعاليات أما من حيثُ الأفكار و الآراء والسلوكيات فحدث ولا حرج .
إن من أشنعِ هذه السلوكيات التي تمثلت بقمةِ سُعارِ الغزو الثقافي هو ما ادعتهُ شرذمةٌ ضالة بأنها انتصرت للحب ، حيثُ ألصقوا بهذا الشعورِ النبيلِ السامي أشنأ أنواعِ الشذوذ البشري واتخذوا من لون قوسِ المطر شعاراً مبهرجاً لهم تعبيراً منهم على أنهم ذوو سلوكٍ طبيعي جداً مستوحى من الطبيعه رغم أن ذلك يعدُ إنحلالاً خلقياً و أخلاقياً ، بل وبلغت جرأتهم بأن جندوا الأقلام المأجورة والمفكرين الأحرار الذين تهكموا على الفطرة الإنسانية وادعوا باطلاً و زوراً بأن الشرائع الدينية لا تتعارض مع هذا السلوكِ المنحرف وأن الله يباركُ هذهِ الأفعال كونها فطرة مجبولة بقلوبنا والمتمثلة بالحُب حيثُ لا ضوابط لهُ كما ادعوا ولما لا يكون هذا الحبُ متجسداً بهذا السلوكِ الطبيعي ، فلا ضير أن يتخذ الذكر من الذكر زوجاً له وكذلك الأنثى تتخذُ من الأنثى زوجةً لها و إذا ما أرادوا الإنجاب فما الضير من استئجار رحمٍ أنثويه أو نطافٍ ذكريه، وبذلك يدرئون عن أنفسم اتهام تفتيت مفهوم بناء الأسرة والتي منها يرتصُ بنيان المجتمع ويستقيم قوامه .
و استغلالاً لمفهوم حريةِ الفكرِ والمعتقد تمكنوا من تطويعِ حكومات دول متقدمة اعترفت بسلوكهم الشاذ كنوعٍ من اسكاتِ أبواقهم ، ثم أخذوا يطالبون المجتمعات الأخرى التي نبذتهم ولعنتهم ليل نهار بأن تعترف بهم و بسلوكهم المرفوض، فبلغوا قمة تفيهقهم حينما ادعوا أنهم فئة مناضلة مظلومة كافحت كثيراً كي يعترف العالم بها ومن لا يفعل ذلك فإنهُ متجذر التعصب وقلبهُ مفعم بالسوداوية البغيضة وبالحقدِ المرعب ، وصار بنظرهم من يحاول أن يحمي أبنائهُ من فكرهم و أفكارهم شخصٌ منبوذ تجتمعُ فيهِ رجعيةُ القرون الأولى وظلامية العصور الوسطى ، كذلك سُخرت لهم المنصات الإعلامية و عُقدت حولهم الندوات الفكرية كيما تُشرع وجودهم وسلوكم و أصبحنا نجدهم متجسدين في الأفلام و المسلسلات الغربيه كأشخاص عاديين جداً يعيشون بيننا ، فتباركُ الأم حفل زفاف ابنها على صديقه وكأن الأمر بغايةِ البساطة ، وصار لهم يومٌ عالمي يتسابقُ فيهِ الساسة الغربيين بخطبِ ودهم والتحدث إليهم بلغة الإعجاب رغم أن كلا الطرفين كاذبين، فلا الساسةُ مقتنعين بسلوكهم ولا هم مقتنعين بأن المجتمع يقبلهم ، هم بقرارةِ أنفسهم يدركون بأنهم منبوذين و مرضى وإلا لما وصفوا أنفسهم بأنهم مظلومين و طبيعيين ، هم موجودون منذ القدم وقد حدثتنا عنهم التوراة ثم الإنجيل فالقرآن عن قومِ نبي الله لوط الذين اتخذوا الرجال شهوةً دون النساء فحاق عليهم عذابٌ عظيم يتلى في كتاب الله حتى قيام الساعه ، حتى وإن شَرَعت بعضُ القوانين الوضعية سلوكهم فهذا من باب الرياء والنفاق وتبقى القوانين السماوية ترفضهم و تحذر منهم ، فهم المعول الصلب الهادمِ لعرى الأسرة وهم النواة الرئيسية في تفتت و تفسخِ المجتمع من خلال نشر الرذيلة ونشر الأمراض الجنسية الفتاكة ،فالصرحُ الذي يُبنى على جرفٍ هارٍ يكون مصيرهُ التصدع و السقوط ، و ستبقى المجتمعات المحافظة سداً منيعاً في درء حمم بركانهم الحارق الزاحف على ما يمشي عليه ، فلم ولن يمروا بيننا ما دمنا رافضين لهم ومحذرين أبنائنا من سلوكهم الشنيع ومتمسكين بثوابتنا وقيمنا ومبادئنا.
التعليقات