إنه المخرج الكبير الذى توج الشهر الماضى بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان (كان) عن فيلمه (حادث بسيط)، صاحب رصيد ضخم من الإنجازات السينمائية، فى مهرجانات (فينسيا) حاصل على (الأسد الذهبى)، وبرلين (الدب الذهبى)، فى سابقة من الصعب تكرارها، أحد أساطين السينما، ومثل أغلب المخرجين والمثقفين فى إيران أيد فى البداية الثورة فى ٧٩، ثم اكتشف أنها تصادر الحريات وتأخذ من الإسلام الجانب الشكلى وتجعل الحجاب فريضة بقرار رسمى، ومن لا ترتديه يزج بها إلى السجن، ويمنعون الموسيقى، ويصادرون حقوق المرأة.
تكتشف عندما تزور إيران، ولقد أتيح لى ذلك مرتين، أن البيت الإيرانى فى جزء كبير منه نقيضًا للشارع، فى البيت يستمعون للموسيقى ويرقصون، وتتحرر المرأة من ارتداء الحجاب حتى مع الغرباء.
الدولة تفرض شروطها بعنف على الدراما، بكل أطيافها، جعفر بناهى ظل يقف عدة سنوات مع الجانب الإصلاحى داخل النظام، إلا أنهم لم يتحملوا أى انتقاد، وبات ممنوعًا من مزاولة المهنة، ومن السفر، وأدانوه جنائيًا ليجد نفسه مطلوبًا لتنفيذ أحكام بالسجن، ولم يكن وحده فعلوها مع المخرج محسن مخلباف، الذى هاجر مع كل أفراد عائلته، وكلهم من المبدعين السينمائيين، إلى فرنسا، كما أنهم ضيقوا الخناق على الراحل عباس كيروستامى، وعلى أصغر فرهادى، ومحمد رسولوف، وغيرهم.
ما الذى يفعله المواطن الذى قهره الوطن عندما يتعرض بلده للخطر؟، يدافع قطعًا عن الوطن، إلا أنه يدرك أيضًا أن هذه السلطة لا يمكن الدفاع عنها.
أتذكر عام ٢٠١٢، وشهود الواقعة من الفنانين والصحفيين أحياء، أننى فى لقاء مع وزير الثقافة الدكتور محمد حسينى قلت إننى أطالب بالإفراج عن بناهى ورسولوف، وكان اللقاء على الهواء والترجمة فورية من العربية إلى الفارسية والعكس، هذا السؤال لم تتم ترجمته، بينما الإجابة التى قال فيها وزير الثقافة إنه تمت محاكمته وإدانته لمخالفات جنائية ليس لها علاقة بحرية التعبير، تمت فقط ترجمتها للعربية.
يومها زايد أحد الممثلين- من أعضاء الوفد المصرى- على كاتب هذه السطور قائلًا: (إن هذا شأن داخلى ولا يوجد مبرر لإثارته فى اللقاء)، الذى يحمل فى عمقه محاولة لعودة العلاقات المصرية- الإيرانية إلى طبيعتها بعيدًا عن الخلافات السياسية.
فى كل الأحوال لم تتجدد اللقاءات كثيرًا، وظل هناك توتر، فى عام ٢٠١٤ عندما حصل الفيلم الإيرانى (ملبورن) على جائزة (الهرم الذهبى) فى مهرجان (القاهرة)، اضطر وزير الثقافة المصرى الراحل الدكتور جابر عصفور أن يلقى كلمة عقب إعلان الجوائز، ليؤكد أن حصولهم على الجائزة لا يعنى أننا سياسيًا نتوافق معهم.
السينما الإيرانية حققت رواجًا عالميًا، أغلب المخرجين الذين تعرض أعمالهم ويحصدون الجوائز يقفون على يسار السلطة، وغير مرحب بهم، سواء طالتهم أحكام أم لا، وغالبًا يقدمون أفلامهم بعد تهريبها من إيران.
الآن بعد أن هدأت أصوات الصواريخ، هل سيقدمون أفلامًا عن رؤيتهم لما حدث؟ الإجابة نعم، وأيضًا لن ترضى عنها الدولة الإيرانية، ولن يصبح الطريق أمامها مفروشًا بالورود فى المهرجانات العالمية، انتظر موجة جديدة من الأفلام الإيرانية، بقدر ما تفضح تعسف وجمود السلطة الإيرانية، فهى أيضًا ستفضح التواطؤ الأمريكى فى حماية إسرائيل.
المخرج الإيرانى الذى تحمل كبت وتعنت النظام، الذى يتدثر عنوة بالإسلام، سيقف حتمًا مع الوطن، إلا أنه وفى نفس الوقت سيحرك زاوية قراءة الفيلم إلى النظام الحالى، الذى لا يدرى أنه عندما يخنق الحريات يخنق الوطن!!.
التعليقات