العدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة لم يكن مجرد صراع عسكرى فقط، وإنما كان أيضًا صراعا على الروايات. الإعلام البديل أظهر أخطاء وتهافت السردية الصهيونية القديمة. فقد تمكن الناس العاديون، خاصة الشباب بالغرب، من رؤية حقيقة ما يجرى فى غزة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
مما أدى لكسر السردية الصهيونية التى دأب الإعلام العالمى التقليدى على الترويج لها لعقود عديدة. وبالفعل بدأت ضغوط الشعوب والرأى العام فى الغرب والعالم أجمع تؤثر على مواقف الحكومات، وشهدنا تغيرا واضحا فى الموقف الدولى تجاه القضية الفلسطينية، فكيف نستثمر هذا التعاطف العابر ونحوله إلى ضغط سياسى مستمر، ليس فقط لنصرة القضية الفلسطينية العادلة، وإنما أيضا لإعادة عرض السردية العربية والإسلامية لقضايانا بخاصة تلك التى طالها التشويه مثل صورة العرب و«الإسلاموفوبيا».
نشير بداية إلى التحول العميق فى مواقف بعض التيارات السياسية والفكرية فى الغرب، مما جعلها تخرج عن سياق السردية الصهيونية، ففى الولايات المتحدة – أكبر داعم للكيان- لا يتمثل هذا التحول فقط فى فوز ممدانى المناصر للقضية الفلسطينية، بمنصب عمدة نيويورك معقل الثقل اليهودى السياسى والاقتصادى الكبير، وإنما ظهر أيضا بين النخب السياسية الأمريكية، فلم يكن أحد يتصور أن نجد مرشحا أمريكيا لا يكتفى فقط بتأييد القضية الفلسطينية وإنما يفخر بعدم قبول تبرعات من لجنة الشئون الأمريكية الإسرائيلية «إيباك» التى تمثل أقوى لوبى للدفاع عن الدعم الأمريكى لإسرائيل.
كثيرون تجرأوا على هذا الفعل ولم يقتصر الأمر على أعضاء الكونجرس من أصول عربية وإسلامية (مثل رشيدة طليب وإلهان عمر) وإنما عبر عن هذا الموقف الجريء العديد من الأعضاء الآخرين من ولايات ودوائر انتخابية مختلفة ومنهم النواب: ألكساندريا كورتيز (نيويورك) وبيتى ماكولو(مينيسوتا) وأندريه كارسون(إنديانا) وارك بوكان)ويسكونسن) وكورى بو )ميزوري( وجون كونتنى )ميشيغان) جيمس ماغورن (ماساتشوستس).
بل أصبحت أعداد كبيرة من الأعضاء الديمقراطيين فى الكونجرس تجاهر كل بضعة أيام بنقد الجرائم الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلّة. وفى داخل الحزب الجمهورى حدث تحول أيضا عن دعم «إسرائيل»، التى راهنت طوال العقود الماضية على اليمين المسيحى الأمريكى المتطرّف (بخاصة التيار الإنجيلي) لدعم سياسات الكيان لأسباب عقائدية تستند على قراءة خاطئة للدين المسيحي، فيما يسمى بـ«الصهيونية المسيحية» وهو تفسير لاهوتى نشأ فى القرن التاسع عشر ويعرف باسم «اللاهوت الاستعماري». ولكن اليوم حدث تغير فى مواقف بعض قيادات هذا اليمين المتطرّف مثل مارجورى جرين عضو الكونجرس، وتاكر كارلسون المذيع التليفزيونى الشهير، وستيف بانون كبير الاستراتيجيين للرئيس الأمريكى ترامب فى ولايته الأولي، الذين أصبحوا يقفون ضدّ العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، ويدعون إلى تفضيل المصالح الأمريكية على المصلحة الإسرائيلية.
هذا التغير فى المواقف -الذى حدث أيضا فى بلاد عديدة - ليس مجرد رد فعل عاطفى عابر، بل يمثل نقطة تحول تاريخية قد تؤدى إلى تغييرات جيوسياسية حقيقية، إذا تم اغتنام هذه الفرصة بشكل صحيح لتحويل هذا التعاطف إلى ضغط شعبى مؤثر على الحكومات، لدعم القضية الفلسطينية، والقضايا العربية والإسلامية العادلة. إن تحقيق هذا الهدف يستلزم بناء هيكل سياسى وقانونى وإعلامى مستدام ينطلق من هذا التغير فى المواقف السياسية ويعتمد على خطاب عربى جديد موجه للعالم. وهذا يتطلب العمل على مسارات عديدة: أولاً : يجب ألا يقتصر الخطاب العربى والإسلامى على سرد المعاناة الإنسانية فى فلسطين وإنما يضيف إليها المطالبة بتنفيذ القوانين الدولية الخاصة بجرائم الحرب، ومقارنة ممارسات الاحتلال الإسرائيلى بسياسات الفصل العنصري. هذا النوع من الخطاب يثير تناقضاً واضحاً لدى الجمهور الغربي، بين القيم الليبرالية التى يؤمن بها ومواقف حكوماته الداعمة لإسرائيل ومن ثم المتعارضة مع تلك القيم.
ثانياً : تعظيم الاستفادة من المحتوى الذى يقدمه الصحفيون والمواطنون العرب والفلسطينيون حول جرائم الإبادة الجماعية بغزة باعتباره أدلة رقمية مهمة. من الضرورى أن تعمل المؤسسات العربية والدولية المعنية على توثيق هذه الأدلة بشكل قضائى محكم. وهذا يتطلب حفظ هذه الأدلة الرقمية فى «سيديهات» وطباعة النصوص ورقيا لحمايتها من الحملات الرقمية المتوقعة التى تستهدف حذفها من المواقع الالكترونية. وترجمة هذه الأدلة إلى اللغات الحية، بحيث تصبح وثائق تاريخية وقانونية جاهزة للاستخدام فى المحاكم الدولية.
التعليقات