بعد عامين من الدمار والموت فى غزة، توقف العدوان الإسرائيلى الغاشم،الذى أسفر عن استشهاد 70 ألفا، وإصابة 200 ألف فلسطيني، وتدمير 95% من مساكن المُواطِنين بالقطاع.وتزايدت الآمال فى تحقيق السلام، ولكن آثار الإبادة الجماعية بغزة التى أكدتها المنظمات الدولية، سوف تستمر لعقود، مزروعة فى الذاكرة الجمعية وفى الأرض المدمرة، ما لم يتخذ المجتمع الدولى إجراءات عقابية حاسمة، فكيف يمكن للعالم أن يتطلع إلى مستقبل يسوده السلام دون محاسبة الجناة، خاصة أن إسرائيل انتهكت وقف إطلاق النار عدة مرات فضلا عن تهديدها المستمر باستئناف العدوان؟ وبدون العقاب كيف نضمن عدم تكرار هذه المأساة؟ إن العدالة ضرورة استراتيجية لردع تكرار مثل هذه الجرائم. لضمان محاسبة شاملة، يجب تفعيل آليات دولية وقضائية متعددة المستويات.
على المستوى الدولي، ينبغى الضغط لتسريع التحقيقات الجارية فى المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم المرتكبة فى الأراضى الفلسطينية. ويتعين على الدول العربية والإسلامية دعم مكتب المدعى العام فى المحكمة بتقديم كل الأدلة والوثائق التى تثبت ارتكاب هذه الجرائم، مع التركيز على جمع الأدلة المتعلقة بنية الإبادة الجماعية، والتى تشمل تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، ونمط الاستهداف العشوائى للبنية التحتية المدنية.
بما يتيح للمدعى العام إصدار مذكرات توقيف بحق هؤلاء الجناة. بالتوازي، يمكن تشكيل محكمة جنائية خاصة لمحاكمة مرتكبى جرائم الحرب فى غزة تحت مظلة الأمم المتحدة، على غرار المحاكم الخاصة بيوجوسلافيا السابقة. كما يجب متابعة تطبيق أى أحكام أو تدابير مؤقتة تصدرها محكمة العدل الدولية فيما يتعلق باتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
على المستوى الوطني، يمنح مبدأ الاختصاص العالمى الدول الحق فى محاكمة مرتكبى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الجناة. وهنا يمكن للدول العربية والإسلامية وغيرها تطبيق هذا المبدأ ومحاكمة المسئولين الإسرائيليين المتورطين بجرائم الحرب. فضلا عن دعم وتوسيع عمل آليات التحقيق الدولية، مثل لجان تقصى الحقائق الأممية. ولتحقيق محاسبة حقيقية، ينبغى دعم الإجراءات القضائية بآليات ضغط سياسية واقتصادية ملموسة تشمل فرض عقوبات دولية على المسئولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين المتورطين فى جرائم الحرب. وحظر شامل على توريد الأسلحة لإسرائيل.
كما يمكن إلزام دولة الاحتلال بإعمار غزة وفقا لمبدأ المسئولية عن الأضرار فى القانون الدولى العرفي، ودفع تعويضات عن انتهاكات جيشها بالقطاع وفقا للبروتوكول الإضافى الأول لاتفاقيات جنيف (1977) - المادة 91.
واقتصاديا: يجب دعم حملات مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل وسحب الاستثمارات فيها وفرض عقوبات اقتصادية متنوعة أخري. وعلى الصعيد الدبلوماسي، يمكن العمل على تعليق عضوية إسرائيل بالأمم المتحدة حتى تلتزم بالقانون الدولي، وسحب السفراء وتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية كخطوة إدانة.
يتطلب تطبيق هذه الإجراءات تجاوز العقبات السياسية التى غالبا ما توفر حصانة للمعتدي. ويرتكز التطبيق الفعال على 3 محاور رئيسية:
أولاً: تشكل الدول العربية والإسلامية جبهة قانونية ودبلوماسية موحدة لدعم ملفات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وتوفير التمويل والخبرات اللازمة لجمع الأدلة. كما يجب العمل المشترك لتجاوز حق النقض (الفيتو) بمجلس الأمن عبر اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرار «الاتحاد من أجل السلام».
ثانيا: إنشاء هيئة دولية مستقلة تعمل بالتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية لجمع وتوثيق وحفظ الأدلة والبيانات من غزة، بما فى ذلك شهادات الناجين، وتقارير الأطباء، والصور الجوية.
ثالثاً، يجب على وسائل الإعلام والمجتمع المدنى العالمى الإبقاء على الضغط والزخم الشعبى المؤيد للقضية الفلسطينية والمطالبة بمعاقبة إسرائيل على جرائمها، وفضح محاولات التعتيم أو تسييس العدالة. فالرأى العام العالمى قوة لا يستهان بها فى دفع الحكومات المترددة نحو اتخاذ مواقف عقابية.
إن التهاون فى محاسبة مرتكبى هذه الجرائم يرسل رسالة خطيرة مفادها أن بالإمكان تدمير شعب بأكمله تحت ذريعة «الدفاع عن النفس» دون عواقب. الدول الأوروبية التى اتخذت عقوبات ضد روسيا بسبب عدوانها على أوكرانيا يجب ان تفعل ذلك مع إسرائيل، لتمهيد الطريق نحو سلام حقيقى يقوم على العدل وردع الأطماع الصهيونية التوسعية.
إن الضمان الوحيد لعدم تكرار الإبادة الجماعية فى غزة أو فى أى مكان آخر هو تطبيق العدالة دون خوف أو محاباة
التعليقات