ليست كلمةً عابرةً دُفنت في أرشيف إعلانات التسعينيات، ولا صدىً تجاريًا يتردد في ذاكرتنا من شاشات الزمن الجميل، بل هي كلمةٌ مُشبعةٌ بالرمزية، محفورةٌ في وجدان من ذاقوا مرارة الأيام الثقيلة، وعرفوا طعم الانتصار الصغير بعد جولاتٍ طويلةٍ من الإنهاك.
"زيست"... هذه المفردة التي حملت ذات يوم اسم صابونة، تحولت في مخيلة الناجين إلى طلـسم سرّي للخلاص اليومي. لم تعد منتجًا يُشترى من على رفوف المتاجر، بل صارت ترنيمة صامتة يرددها من تعلموا أن يقاتلوا وحدهم في معارك لا تُرى، ولا تُحكى في مجالس التباهي.
إنها الكلمة التي تنبثق من رحم اللحظة التي ينتصر فيها المرء على يومه، لا بالتصفيق الذي يأتي من الخارج، بل بالتصالح الذي يأتي من الداخل. حين يسدل الليل خيمته السوداء على مسرح النهار، وحين تتساقط أقنعة الكفاح واحدًا تلو الآخر، تأتي تلك اللحظة المقدسة التي نهمس فيها: "أخيرًا زيست".
لا أعني بها طقوس الاستحمام أو عبق الرغوة المنعشة، بل أعني ذلك الصمت المقدس الذي يخيم على الروح حين تضع أثقالها، وتتمدد في فراش السكينة بعد رحلة طويلة عبر صحراء اليوم الموحش. إنها اللحظة التي نقول فيها لأنفسنا، دون أن ننطق بكلمة واحدة: "لقد نجوت... مرة أخرى".
ما كانت "زيست" صابونة بقدر ما كانت استعارة للعودة إلى الذات، للهبوط الآمن بعد طيران شاق في سماء مليئة بالعواصف. إنها الحدود المقدسة التي نرسمها حول أنفسنا في عالم لا يعترف بحاجتنا للراحة، ولا يقدر صمودنا الخفي الذي لا يراه سوى الله.
إنها نشيد الانتصارات الصغيرة التي لا تُقام لها الاحتفالات، ولا تُكتب عنها المقالات. نشيد نرنمه نحن الذين تعلمنا أن نحارب بصمت، وأن نبني قلاعنا من دموع لم تسقط، ومن صرخات لم تُطلق.
"أخيرًا زيست"... جملة لا تُولد من فراغ، بل تتشكل من لهيب النهار الطويل، من الضحكات المتكلفة التي أجبرنا أنفسنا عليها، من العبارات المجاملة التي قلناها وقلوبنا تنزف، من السير بخطوات ثابتة بينما أرواحنا تترنح. إنها إعلان الهدنة المؤقتة مع عالم لا يكف عن المطالبة.
فيها كل ما نخشى الاعتراف به: أننا كدنا أن ننكسر، لكننا رممنا شقوقنا بالصبر. أننا أردنا أن نولول، لكننا حولنا الألم إلى ابتسامة. أننا كنا على وشك الاستسلام، لكننا اخترعنا قوة من العدم. إنها ليست مجرد راحة للجسد المتهالك، بل مديح صامت للروح التي رفضت أن تنطفئ.
في عالم يطحننا بين فكي سرعته الجنونية، نحتاج إلى رموزنا الشخصية، إلى كلماتنا السرية التي نقول بها لأنفسنا: "أنت هنا، وما زلت تقاوم، وما زلت قادرًا على أن ترى الفجر من جديد".
ولهذا... تبقى "زيست"، بكل عفويتها الخادعة، أعمق المفردات في معجم النجاة الشخصية. لأنها لا تعني فقط انتهاء يوم آخر من أيام الكفاح، بل تعني بداية الإدراك العميق أننا، رغم كل الجراح، رغم كل التعب، رغم كل اليأس الذي حاول أن يعشش في قلوبنا... ما زلنا أحياء.
وأن نكون أحياء، في عالم كهذا، هو في حد ذاته معجزة تستحق أن تُحتفل بها... ولو همسًا.
التعليقات