الفيلم القصير ليس شكلا أدنى في الحكي السينمائي من الفيلم الطويل، فكلاهما يحكي قصة ويقومان على نفس عناصر الدراما: بطل يريد شيئا، فيقوم بفعل، فيواجه صراعا، يقود إلى ذروة وحل، وهما يعتمدان على الحدث البصري لتقديم الشخصيات والحبكة إلى جانب الحوار ومحتويات شريط الصوت باستخدام الوسيط السينمائي السمعي-البصري.
إلا إن الفيلم القصير له سمات تميزه تجعله أكثر حرية في قدراته الإبداعية من الفيلم الطويل، وأهم سماته إلى جانب مدته القصيرة، هو الاقتصاد والإيجاز، حيث يقول الكثير بأقل القليل، ويقود ذلك إلى البساطة وعدم التعقيد، والحرية في استخدام المجاز. وأهم مايميز الفيلم القصير هو قلة تكاليفه خاصة مع الثورة التكنولوجية واستخدام الكاميرات الرقمية وكاميرات الهواتف المحمولة وبرامج المونتاج وشبكة الانترنت التي تتيح إمكانية تحميل الأفلام على المواقع المجانية، مما منح الفيلم القصير قبلة الحياة بعد أن تقوقع لفترة، رغم أن الأفلام القصيرة ولدت مع ميلاد السينما.
ويمكن للفيلم القصير أن يعالج لحظة ما، مثلما تفعل الصورة الفوتوغرافية، أو يعالج حالة عاطفية ومزاجية مثلما تفعل القصيدة، أو يكون ملحوظة تأملية عميقة كما تفعل القصة القصيرة.
يقول إيليا كازان:" سيناريو الفيلم هو فن معماري أكثر منه أدبي".
والبناء الجيد للأفلام القصيرة والطويلة يتبع نفس القواعد، فبداية الفيلم لابد أن تؤسس للمشكلة الدرامية التي يفهمها الجمهور.
والوسط يبني الفعل المتصاعد للقصة، التي تزيد حدته حتى الذروة والنهاية والحل.
وفكرة الفصول الثلاثة بنسبتها المعروفة في الفيلم الطويل (1:2:1) لايمكن أن تنطبق على الفيلم القصير، فالفصل الثاني قد يبلغ أكثر من 5 أمثال الفصل الأول أو الثالث.
لكن لازالت القاعدة واحدة: تأسيس في الفصل الأول، واحتدام الصراع في الفصل الثاني، والنهاية أو الحل في الفصل الثالث.
ويتم زرع الشخصيات والتعرف على حاجاتها وأهدافها والتأسيس لمشكلة الفيلم الدرامية وإنشاء الحدث المحفز بأقصى سرعة، وهو ما نلاحظه في هذا الفيلم الذي قدم مناخا مشحونا وموترا للأعصاب بدأ بالحدث المفجر منذ البداية عند اصطحاب الأب لابنته للخروج سويا، فاتضح هدف البطل وحاجته مبكرا منذ البداية.
ونحاول أن نطبق هذه السمات على الفيلم الألماني ( Everything Will Be Okay)انتاج 2015، تأليف وإخراج بارتيك فولراث، بطولة سيمون شفارتس وجوليا بوينتر، ويحكي قصة أب مطلق يسعى للفرار بابنته والسفر بها للعيش معه وترك منزل والدتها المنفصلة عنه والمتزوجة بغيره، دون أن يعلم أحد بنيته تلك.
منطقة الوسط في الفيلم بدأت منذ الدقيقة الثالثة عند انطلاق الأب بالسيارة مع ابنته محاولا التغلب على الصعوبات والعوائق المختلفة، بداية من محاولته بث الاطمئنان في نفس ابنته من خلال الحديث الحنون وشراء اللعب، ثم ادعائه عدم معرفة مكان جوالها حتى لا تتحدث مع أمها خلال الرحلة، وإقناعها بعدم الحديث مع موظفة مكتب الجوازات لاستخراج جواز سفر لها حتى تنال جائزتها منه باصطحابها إلى الملاهي.
تسير الأمور وفق الخطة إلى أن نصل الى الأزمة د: 17 عندما أُخبر بإلغاء الرحلة وتأجيل السفر لصباح الغد، ثم نقترب من الذروة د: 21 عند اتصال البنت بأمها تخبرها بمكانها، فتأتي ومعها الشرطة.
وتبدأ الذروة في د: 27عند بدء مفاوضات الشرطة الحاسمة معه واقتحامها الغرفة لإجباره على تسليم البنت لأمها، لنصل إلى نقطة النهاية د: 30 قبل نهاية مدة الفيلم بثوان قليلة مع وصول الأب لحالة من الانهيارالتام ويقينه أنه لا مفر من ترك الابنة لامها فيستسلم في النهاية لهذا الحل ويترك ابنته لترحل مع الأم، وتعود الأمور لنقطة البداية.
ولأن الشخصية في الفيلم القصير لها الأولوية على الحبكة التي تتميز بالبساطة وعدم التعقيد. فقد كان الفيلم جيدا حيث ركز على حياة شخصية واحدة تمر بحوادث واضحة ولم يتطرق إلى باقي الشخصيات، ورغم أن شخصية البطل تبدو مركبة إلا إنه نجح في جعل الجمهور يرتبط به و يكتشف دواخله ومكنونات شخصيته من خلال سلوكه المشوق في التعامل مع الأحداث المتلاحقة.
كذلك كانت الشخصية متسقة مع تعريفها الأول والانطباع الذي تولد لدى الجمهور ولم تتغير حتى النهاية ولكنه تعلَّم درسا حياتيا هامٌا، وهو أن بعض الأمور عصية على التغيير، لكنه مازال نفس الشخص ولم يتغير فقد سلم الابنة مجبرا وليس عن اقتناع. ورغم اتساق أفعاله مع سمات شخصيته التي اكتشفها الجمهور إلا إن الأحداث ظلت غير متوقعة، فاجأت المشاهد بتطورها بهذا الشكل الدرامي ولم يتوقع تلك النهاية وإن بقيت في حيز احتمالاته.
وكان الصراع جيدا في الفيلم تميز بالقوة بين ضدين متعارضين - البطل وخصومه- وكان قائما على الفعل ورد الفعل التي ازدادت وتيرتهما شيئا فشيئا مع تطور الأحداث.
الحوار في الفيلم القصير مثله في الفيلم الطويل يقوم بدور مكمل لدور للصورة.
ومثل كل أبعاد الفيلم القصير فإن الحوار يجب أن يكون مقتصدا وهادفا فالكلمات في الشكل السينمائي هي العدو أكثر منها الحليف، على حد وصف جيمس أ. بيفريدج، فالتأثير الأساسي في أي فيلم يعتمد على العين، وتمثل الأذن عاملا مساعدا وقناة ثانوية (3) فالمتفرج يحتاج إلى مزيد من الوقت ليستوعب الصوت أكثر مما يحدث مع العناصر البصرية
لكن الحوار هنا في هذا الفيلم كان عنصرا أساسيا في خطة البطل لبث الاطمئنان في نفس ابنته وإلزامها بأوامره طواعية جنبا الى جنب مع منحها الهدايا والترفيه. (4)
لكنه كان مقننا تحدد في الجمل التي لايمكن الاستغناء عنها تشرح أمرا أو تعلن خبرا، أو تكشف سرا، مع القليل من الإسهاب أحيانا، كحديث الأب إلى الابنة عن انشطتها المدرسية وحديثه مع مسؤول الاستعلامات في المطار ومع الشرطة، وايضا ما يستحب الإشارة إليه بشكل موجز كالجمل القصيرة في بداية الفيلم بين الأم وابنتها، فلا حاجة لإعطاء معلومات مجانية.
وقد أسهم الحوار في دفع الحبكة نحو الذروة بتطور الحديث بين الأب وابنته الذي اصبح غامضا بعض الشيء، ثم بتطوره نحو العصبية والغضب والشك في تصرفاتها إلى ذروة الهوس من فكرة فقدانها أو فساد خطته لتتضافر الأحداث كلها ضد مخططه فيسهم الحوار في فهم شخصية الأب التي يمكن أن نتوقع منها سبب الانفصال، ولماذا كان القلق من الأم في البداية، مما يقوي من فهم الجمهور لطبيعة الصراع ودفعه إلى الذروة ويتضح بناء الحبكة المحكم، كما تلاعب الحوار بدرجة توتر المتفرج في مشاهد عدة وانتقل به بمنطقية بين المشاهد، كمشهد المطار عند اخباره بتأجيل الرحلة، وكذلك حواره المتضرع المعاتب مع ابنته قبل اقتحام الشرطة للغرفة.
وقد حازت الفيلم على استحسان الجمهور، وتقدير النقاد ورشح لجائزة الأكاديمي عن فئة الفيلم القصير عام 2016 ، لما حققه من سمات الفيلم القصير، التي كانت واضحة جلية في بنائه.
المراجع:
- بات كوبر، دين دانسايجر، كتابة سيناريو الأفلام القصيرة، ترجمة: أحمد يوسف.
- نسخة من الفيلم الألماني ( Everything Will Be Okay).
التعليقات