نشأتُ في الريف المصري "الرائع"، وشاهدتُ، إن لم يكن في منزلنا، في معظم منازل قريتي، وكل القرى، خيرات الريف المصري، وهذه الخيرات، بصورة غير معلنة رسميًا نتاج "مشروعات صغيرة"، فكانت سيدة المنزل الريفي (السيدة البسيطة) تقوم بعدة طقوس يومية هي في حد ذاتها مشروعات صغيرة، وإن أحصينا أعمال سيدات الريف لوجدنا الناتج يعادل، أو يفوق، مشروعات عملاقة تستخدم المليارات لتمويلها.
ودعونا نعود بالزمن ونشاهد سيدة ريفية بسيطة للغاية تمارس تفاصيل حياتها اليومية ونصل معًا إلى الناتج عن عملها المنزلي، فنجدها تُبكر قبل أن يصحو الجميع لتقوم بعدة أعمال منها الدخول إلى حظيرة المنزل حاملة الطاجن (وعاء من الفخار يستخدم في حلب اللبن، ومنه أنواع يطلق عليها في بعض القرى شَلْيَة) لتحلب جاموستها، فتضع لها علفها وتربت عليها في حنان صباحي وتجلس أسفلها لتمارس عملها في ود. وبعد دقائق تخرج حاملة عدة كيلوجرامات من اللبن الحليب وفقًا لحال الحيوان، وسوف تعود إليها مرة أخرى في المساء لتحلبها وتعود بكمية جديدة من الحليب، وهذا يحدث يوميًا، فيوفر لها على أقل تقدير ستة كيلوجرامات من الحليب يوميًا، يُستخدم في إنتاج القشدة والسمن البلدي والجبن القريش، إضافة إلى ما يتم استخدامه حليبًا لصناعة الأرز "المعمر" وأنواع الحلويات، وهذا الإنتاج يكفي أفراد الأسرة فلا يحتاج أحدهم يومًا لشراء "اللبن – الجبن – القشدة – السمن - الزبادي" سواء لأكلها بشكل مباشر أو استخدامها في مختلف أنواع المأكولات، وحينما يفيض الناتج عن الاستهلاك تقوم سيدة المنزل الريفي بتخزين الجبن في جرار "لصناعة الجبن القديم" والسمن أيضًا، ثم إن زاد عن الاستخدام شيء من الناتج تُرسل منه إلى الجيران والأقارب، فيعم الخير، ولا تدهش من حديثي، لقد عشته وشاهدته بالفعل، ولك أن تتخيل معي في منزلك يوميًا ستة كيلوجرامات من الحليب.
ثم تضع حملها من الحليب في ركن خاص بغرفة الخزين حتى يكتمل نضج القشدة، ثم تتوجه إلى مكان تربية دواجنها من فراخ بلدي وبط وإوز، لتضع لهم الطعام وهي تهشهم في ابتسامة تسعد لها الدواجن فترفرف لتلتهم طعامها في صخب، ثم تعود سيدة المنزل حاملة عدة بيضات من بين الزوايا التي تضع فيها دواجنها بيضها. وتتحرك في هدوء لتحمل من حجرة خزينها عدة حفنات من برميل الدقيق (الذي خزنته من طحين قمحها عند موسم حصاد القمح الماضي) وتقوم بعجنها مع ماء ولبن وسمن، وتترك عجينتها لتخمر ثم تتوجه إلى فرنها البلدي الصغير، تُشعله ببعض الحطب (المخزون لديهم من قش الأرز وأعواد الذرة الجافة، وأعواد القطن الجافة حينما كانوا يزرعون القطن أو فروع صفصاف جافة يحملها لها الزوج والأبناء) وحينما يحمى فرنها ويختمر عجينها؛ تخبز عيشها اللازم لطعام إفطار أسرتها مع الجبن والقشدة والبيض. وعند إعدادها طعام الغداء وهو الوجبة الرئيسية لدي الأسرة تأتي بفرخة أو بطة (مُزغطة) أو إوزة من تربيتها؛ ثم تُشعل "الكانون" لطهي طعامها مستخدمة الأعشاب والأعواد الجافة، وهذا الكانون يساعد في طهي البطة ثم طهي حلة محشي أو أرز لتحصل على طعام ولا أشهى. وبالطبع كانت الأسرة تشتري احتياجات من الخارج، الخضروات واللحم وغير ذلك من متطلبات لا تشملها المشروعات الصغيرة للأسرة المصرية في ريف مصر، وكان الزوج يُربي ماشيته (عجول – أغنام – ماعز) مع الجاموسة، ويزرع أرضه فيحمل منها ما تأكله ماشيته من برسيم وأعواد ذرة خضراء إضافة إلى ما يشتريه من أعلاف، ثم يأتي لبيته من زرعه بالخضروات من "فلفل – خيار -طماطم – خس – بقدونس – كزبرة – بصل – ثوم.. " وغير ذلك مما يزرعه على أطراف حقله لاستخدام عائلته؛ إضافة إلى ما يزرعه بشكل أساسي من قمح وذرة وأرز يقوم بتخزين ما يكفي العام لأسرته، وتتولى الزوجة مسؤولية الطحين (في ماكينة الطحين المجاورة؛ وهو طقس له تفاصيل رائعة) والحفاظ على خزينها السنوي.
تربية الماشية في هذه الأسرة، تربية الدواجن، صناعة الجبن، السمن، توفير الأرز، الدقيق، توفير الخضروات اللازمة للأسرة، كل هذه التفاصيل التي تقدم جانب كبير من الاكتفاء الذاتي للأسرة المصرية، وبالتالي معظم الأسر في الريف المصري، و وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن نسبة سكان الريف المصري 57% من سكان مصر، فإن افترضنا أن 50% من أبناء الريف كان يمارس هذه التفاصيل ويصل إلى الاكتفاء الذاتي من الأساسيات، فإننا نتحدث عن ربع سكان مصر.. نتحدث عن هذا العدد يُنتج، فهو إذن يكتفي، وهو إذن لا يشتري.. لذا فنحن أمام حالة اقتصادية رائعة. ودعونا نمر سريعًا على مُنتج بروتيني رائع وأقصد السمك، حينما كان يتم توفير "زريعة السمك" في نهر النيل كأكبر مزرعة سمكية تُقدم للصياد المصري (صاحب مشروع صيد سمكي صغير) عدة كيلوجرامات من السمك يوميًا يكتفي بأكل بعضها وبيع الكثير منها يوميًا، مما يدعم السوق، إضافة إلى كون ذلك مصدر رزق تعيش منه مئات الأسر.
وبالطبع هناك مشروعات صغيرة مرتبطة بكل ما سبق من مشروعات صغيرة، فهناك عائلات في الريف تعيش على صناعة الفخار الذي يستخدمه الفلاح، وأسر تعيش على صناعة "الحُصر" الخاصة بصناعة الجبن، وأسر تعيش على مشروع ماكينة الطحين، وأسر تعيش على صناعة "الغزل" للصيد، وغيرها الكثير.
بالطبع افتقدنا؛ مع دعوى التغيير والتمدين؛ هذه المشروعات الصغيرة، وافتقدناها أيضًا لتغيير طريقة التفكير، مع ارتفاع أسعار الأساسيات التي كانت الأسرة تعتمد عليها، فعلى سبيل المثال سعر الكتكوت (عمر أيام) الذي كانت تشتريه سيدة المنزل منذ فترة (قبل 20 سنة تقريبًا) لتربيته بأقل من جنيه واحد، وصل سعره اليوم إلى أربعين جنيهًا تقريبًا، وفرخ البط أكثر من خمسين جنيهًا وفقًا للنوع والعمر. وهذا التغيير أدى إلى ثقافة استهلاكية رهيبة تُكلف الدولة المليارات، فهذه الأفران والكانون الذي كان يعتمد على القش وأعواد الحطب الجافة تحول إلى أفران وبتوجازات تحتاج إلى الغاز، وعدم الطحن والخبز أدى إلى الاعتماد على المخابز والعيش المدعوم بتكلفة مليارات، وعدم تربية الدواجن في بيوت الريف جعل أهلها يلجأون إلى شراء الفراخ والبيض وغيرها مما ساعد في رفع الأسعار لزيادة الطلب.
ولابد من حل بالطبع، والحلول لا تأتي من قطاع خاص، إنما تأتي من الدولة، من الجهات المسؤولة، فلابد من توفير أساسيات المشروعات الصغيرة (كتاكيت – عجول صغيرة للتربية – زريعة سمك في النيل والمزارع السمكية – توفير الأعلاف – الأدوية) بأي وسيلة فسوف تساعد بشكل عام في تحسين الوضع الاقتصادي للدولة. فهل تعود أيام المشروعات الصغيرة في الريف المصري؟
التعليقات