لا زلت أذكر حتى الآن وبعد مرور ردح من الزمن يوم ظهور نتيجة الثانوية العامة. ذهبت يومها وحدي إلى مدرستي. لم أكن خائفة بل مترقبة. كان الجميع حاضرين مدرسين وزميلات وإداريين. أول من رأيت يومها كانت مدرسة المواد الفلسفية ابتسمت لها على استحياء فما كان منها إلا أن بادرتني بصيحة (أتفعلين بي هذا دونا عن كل الصف؟!). كانت عبارتها المفجعة كفيلة بسحب الدماء من عروقي وتجميدها في مقلتي. كررت كلامها( أنتِ! أنتِ! كيف؟). استسلمت لقدري ولم أنبس ببنت شفة. صمت هائل خيم علي فلم استفسر منها عما تعنيه ولم ألتفت حتى حولي. لحظات ثقيلة مرت علي وأنا أفكر في مصيري البائس وكيف سأحمله لأهلي في البيت. حساب عسير ومحكمة صارمة نصبت أمام عيني وقفت فيها عاجزة عن إيجاد مبرر منطقي لفعلتي المزعومة.
هل قصرت في دراستي؟ أبدا! لقد بذلت كل ما في وسعي حتى البرامج التعليمية في الراديو والتليفزيون تابعتها باهتمام. لابد أن كل اجتهاداتي لم تكن كافية أو ناقصة على الأحرى. ربما لم أدرب نفسي على امتحانات السنوات السابقة ولم أكن على دراية كافية بأساليب الأسئلة فالعلم المجرد وحده لا يكفي على الأرجح قياسا بوضعي الآن. ما جدوى المعلومة إن لم أعلم كيف السبيل لتوظيفها على أكمل وجه!
ربما علي الاعتراف بأنني أخطأت في عدم اللجوء للدروس الخصوصية والاكتفاء بالحضور في المدرسة والدراسة في البيت. طالعني مشهد إحدى الزميلات وهي تتحداني أنني لن أحصل على نتيجة مرضية طالما لا أحصل على درس مثلهن! (سيكون مصيرك بائسا!) هكذا قالت لي يوما متعجبة من أنني الوحيدة التي ترفض المساعدة الخارجية. يا لسعادتها اليوم وشماتتها في! هل أخطأت حقا؟! رفضت الدروس لأن مَدرَستي ملتزمة وحازمة. كل الدروس تشرح شرحا مستفيضا طوال السنة ولم يبخل علينا مدرسونا بلحظة واحدة من الشرح والتدريب. لقد جانبني الصواب بلا شك. ليتني فعلت مثلما فعل الجميع. ما الضير؟! لقد أصررت على الرفض وهاهي النتيجة!
ترى ما مصيري الآن؟ الجامعات المتاحة هي الجامعات الحكومية فقط لا غير ولا توجد جامعة خاصة إلا الجامعة الأمريكية باهظة التكاليف. هل سأضطر لقبول أي قسم فلا أملك رفاهية الآن. هذا ما جنته على نفسها براقش! جلدت نفسي أشد أنواع الجلد في ثوانٍ معدودة غيبتني عن الواقع مع كلام مدرستي وعدت إلى حصص الفلسفة والمنطق التي كنت أجلس فيها كأن على رأسي الطير. لم أحب المادة ولم أفهمها لكن هل يعني ذلك أنني رسبت؟
أفقت من شرودي على صوت معلمتي: (أنت آخر شخص توقعت منه نتيجة كهذه! كيف حصلت عليها وأنت صامتة واجمة طوال العام الدراسي؟ نتيجتك ممتازة وغير متوقعة بتاتا! لقد ظننت أنك سترسبين. لم تشاركي يوما في نقاش داخل الصف، ولم تحضري درسا خارجيا واحدا، ودرجاتك خلال العام كانت لا تبشر إلا بالحد الأدنى من الأداء. مبارك يا صاحبة المفاجآت!) احتضتني مهنئة وأنا كورقة شجر بائسة تلقفتها الريح دون سابق إنذار.
وجدت نفسي أفيق من شرودي على ضحكات وكلمات مباركة من صديقاتي وزميلاتي. لقد نجحت وبتفوق! كلمات معلمتي لم تكن نابعة إلا من صدمتها غير المتوقعة.
لقد كنت حقا خاملة طوال السنة. أعمل في صمت. قليلة الكلام قليلة الظهور. لم أجد في نفسي حاجة لدروس خارجية تستنزف جهدي ووقتي طالما أن مدرستي تقدم لي أفضل ما يمكنها من شرح واهتمام. كنت محظوظة بمعلمات ومعلمين لا يهمهم سوى مصلحة الطلبة. مدرستي منضبطة وهذا من حسن حظي.
حقا لقد كانت ثانويتي العامة مختلفة عن الجميع. لم أعتنق القلق ولم أؤمن إلا بأن الله لن يضيع جهدي. لم آل جهدا في الدراسة ومتابعة البرامج التعليمية المتاحة على شاشة التليفزيون والراديو آنذاك. في عصر ما قبل ثورة التكنولوجيا الرقمية كان هذا مبلغنا من العلم فلا يوتيوب ولا مواقع إنترنت. آمنت بأنها سنة عادية لا مصيرية فقسمت جهدي بين دراستي وبين ما أحب فعله من هوايات. واظبت على القراءة ولم أعش بغصة حرمان منها عام كامل. نمت ملء جفوني ليلة الامتحان وجلست في اللجنة هادئة مطمئنة أن ليس في الإمكان أفضل مما كان. لم أعان من تساقط شعر أو أي أعراض نفسية جسدية تسبب فيها القلق والضغط. تحملت سخافات وعبارات سخرية أنني ممتنعة عن الدروس الخصوصية لقلة ذات اليد لا لقرار شخصي بمحض إرادتي. لم يكن أحد يصدق أنني حقا لا أفضل تشتيت الجهد والوقت.
واليوم وبعد مرور سنوات وسنوات أرى نفسي وأرى زميلاتي. المستقبل الذي ظنه الجميع متوقفا على درجة في الشهادة أو اسم كلية بعينها ليس كذلك. ها نحن نتطلع على الماضي من هذا المستقبل الذي أصبح حاضرنا اليوم. من حسبت أن نهاية عالمها في جامعة بعينها أو تخصص هو مبلغ المنى فشلت، ومن ظنت أن التحاقها بمكان لم يكن في الحسبان سيجلب لها وبالا لم يجلب لها إلا النجاح والتوفيق. كم منا من عمل في مجال لا يمت بصلة بدراسته وكم منا من انتهى به الحال لشيء لم يكن يوما في الحسبان. صديقتي التي قاتلت من أجل كلية الطب البشري هاهي لا تمارس المهنة نهائيا اليوم والأخرى التي كانت الهندسة مبتغاها بدلتها بمجال آخر شغفها حبا!
النجاح غير مرهون بموقع جغرافي أو لقب لا يحيد عنه. رفقا بأنفسكم وبأبنائكم. هذا الشبح الرابض في البيوت كل عام لابد من طرده خارج العقول والغرف. كم من طالب مات كمدا وكم من أب أو أم سلبتهما الثانوية العامة أعز ما يملكون! ليست دعوة للتهاون بل هي دعوة لإعادة تقييم الأمور والتخفيف عن النفس وعن الغير.
الحياة مليئة بالفرص والمجالات التي سينجح فيها صاحب الشهادة وغير صاحب الشهادة. إذا صدق العزم وضح السبيل؛ هي عزيمة واحدة لكن من قال إنه سبيل واحد؟!
التعليقات