أول ما يقع عليه بصرك وأنت تطالع مقدمة كُتَيِّب "أشكال هندسيَّة" كلمات كتبتها الأستاذة صافى ناز كاظم تَصِف فيه عصمت داوستاشي بأنه تِنِّين طيب، لكنه غير مستريح كأنَّ الإرهاق لَعْنَة قَدَرِيَّة أصابته، هو فنان متأجِّج، لا يَكُف عن التشكيل والتحليل وإعادة صياغة العلاقات بين الأشياء، كطفل يلعب ولا نهاية للعبه. فداوستاشي يستخدم أدوات متعددة: اللوحة، النحت، الفوتوغرافيا، والقلم والورقة، فهو وحده الذي يحدد الوسيط الذي يبوح من خلاله بفكرته وانفعالاته.
"أشكل هندسية" لعصمت داوستاشي، كُتَيِّب صغير الحجم مَوْسُوم بقصص قصيرة، صَدَرَ عن سلسلة كتالوج 77، سلسلة مَعْنيَّة بالأبحاث الفنية والكتابات الأدبية للفنانين التشكيلين صدر ت على نفقتهم الخاصة، وهو الاصدار السادس من السلسلة.
يستخدم الإحالات الخاصة به ويجعلنا نرى الأشكال الهندسية كأنها أشكالًا حيَّة، فلم تعد الأشكال الهندسية صماء على الورق بلا روح، نرى لها خصوصيتها التي نَبَعَتْ من ذاته وخياله التشكيلي، فنشاهد للمثلث عالم خاص، كذلك المربع والدائرة والنقطة والمستطيل، نرى هذه الأشكال بعيون داوستاشي يخرجها لنا من إطارها الهندسي الجامد الذي نعرفه لأشكال أكثر رحابة، لها دلالتها الرمزية الخاصة الموضوعة في إطار العمل القصصي الذي يتناوله.
يفتتح الكُتَيِّب القصصي بقصة المثلث بما له من دلالات كثيرة، نتابع الراوي وهو يكتشف فجأة وبحالة من الوعى الكامل أنه يعيش داخل إطار على شكل مثلث، ربما يرمز للهرم، ربما يرمز للحالة الخاصة للبلد في عام كتابة القصة 1983، فهو يصف الحالات داخل المثلث بأنها انقسمت لثلاثة أوضاع: الوعى في قمة المثلث، وفي الوسط نِصْف الوعي ثم يكون بعد ذلك حالة اللاوعي، وإذا بنا نكتشف مع الراوي أن جميع المحيطين به يعيشون داخل مثلثات، كل مثلث يتناسب مع حالة من في داخله (لقد انحشر في كل مثلث من هذه المثلثات إنسان ما في وضع يثير الإضحاك بالنسبة لي، بل والرثاء أيضًا، وعلى كل فحالتي أحسن من حالتهم، هكذا أهمس لنفسي طوال الوقت. ص12) فبعضهم مستريح في مثلث منفرج الزاوية وهم أصحاب اللاوعي، وأصحاب مثلثات الزاوية القائمة طبيعتهم عسكرية، وأصحاب الذكاء في مثلثات متساوية الأضلاع، جعل داوستاشي المثلث هو الإطار الذي يَحْكُم كل واحد، و في الوقت ذاته هو معزول عن المجموع وله حالته الخاصة، ونلاحظ أن الرؤساء في العمل لا ينتبهون للمثلثات الذكية، بما يعنى إهمال الموهبة والعبقرية وتفضيل التفاهات، لذلك فضَّل أن يعيش في نِصْف الوعى بلا مُبَالاة وهى حالة عامة في زمن كتابة القصة تم التعبير عنها بتشكيل جيد.
ينتقل بنا من الحياة داخل المثلث للحياة فوق المربع الأملس في قصة المربع، حياة غريبة لكل فرد فوق المربع، الجميع يتحايل للبقاء، فقط البقاء على سطح أملس، ومصر على الخارطة تشبه المربع، هل هذا هو مربع داوستاشي؟ ربما صنع لكل واحد مربعه الذي يتناسب معه، حتى أنك ترى لكل واحد منهم جاذبيته الخاصة، بل هناك من لا جاذبية لديهم، تشدهم إلى شيء ما، لو توفَّرت لكانت هي الشيء الوحيد الراسخ في حياتهم الكئيبة فوق سطح المربع، هذه الجاذبية هي ما يربط الأفراد بالأرض المربع، قد يتسع مدلول المربع ليشمل الدنيا كلها، وأن البقاء على هذا الوضع أمر حتمي للجميع، فالإنسان منجذب في هذه القصة بعدما كان محاطًا في قصة المثلث.
في قصة (الدائرة) يدخل الراوي داخل أعماق شخصية صديقه، الذي يراه كدائرة في كل شيء، تكوينه الجسماني، والنفسي، هو غارق في قانون الدائرة، يدور حول نفسه في دائرة، شخصية متداولة وربما تقابلها كثيرًا ثم نراه يتحوَّل إلى كرة حديدية بكل ما فها من بطء حركة، يحتاج للدفع كل فترة ليستمر في حياته، إنه ثقيل، نموذج سريالي لشخصية غريبة تُصَوِّر حالة موظف كالكرة الحديد، صورة أخرى من صور الدائرة ثم يتحوَّل لبالونة ضخمة فارغة تكون نهايتها الانفجار، دَخَلَ بنا داوستاشي لمراحل إنسانية ونماذج بشرية عن طريق الدائرة البسيطة التي يلوح بها الصبي بإصبعه في الهواء.
في قصة (المستطيل) نراه وكأنه مستطيل حي، فارغ بلا معني، نلمح أن المستطيل يشبه التابوت، وأن الحالة في القصة كلها تعني الموت الداخلي، وكأننا نحيا داخل تابوت، لكل منا تابوته الخاص، فلا حياة ولا موت حقيقي، لا متعة ولا استمتاع، فقط حياة داخل مستطيل تابوت (أن أسعى بجديَّة نحو الخلاص من هذا الحصار وأن أُحَطِّم القيود، وأفك الغلال، لأنطلق بعيدًا عن وظيفتي، وهموم مصروف البيت، بعيدًا عن قعدة التلفزيون وسطور الجرائد التافهة، بعيدًا عن صراخ العيال ومشاجرات الزوجة، بعيدًا عن متع بلا متعة، وفرحة بلا فرحة. ص 39)
طاف بنا أيضًا في قصة (النقطة) فجعل منها نقطة مذكرة ونقطة مؤنثة، كما فعل في الأشكال الهندسية السابقة، حوَّل لنا الخطوط الحادة لمادة حية، لها خصائصها الملزمة لعالم القصة التي كتبها، وخرجت من إطارها الهندسي، مما يجعل هذه القصص عُرضة لتأويلات مختلفة مرتبطة بالواقع المعاش زمن كتابتها، ومرتبطة أيضًا برؤية تشكيلي يكتب القصص من وجهة نظره الخاصة، هل كان يرسم عن طريق الكلمة؟! ربما، هل كان يكتب رسمًا؟! ربما.
التعليقات