يعد المؤرخ د. محمد صبري السربوني (1894 – 1978) واحدًا من كبار المؤرخين الأدبيين في مصر، سافر إلى فرنسا على نفقته الخاصة عام 1914 ثم التحق بجامعة السربون، وحصل منها على ليسانس الآداب في التاريخ الحديث، ثم على دكتوراه الدولة في الآداب عام 1924، وكان أول مصري يحصل على هذه الشهادة من جامعة السربون في باريس، فلقب بالسربوني.
ومن المعروف عنه أنه قدم "الشوقيات المجهولة" للشاعر أحمد شوقي، فما قصة هذه الشوقيات المجهولة، وكيف جاءت الفكرة وكيف كان الاكتشاف والتنفيذ؟
يقول السربوني عن علاقته بأمير الشعراء: رافقتُ شوقي في رحلته إلى أوروبا في صيف سنة 1923، وكان هو يفكر وهو في باريس في الذهاب إلى شاطئ البحر، فقلتُ له: "أريد أن أنتهز هذه الفرصة لتأريخ حياتك وشعرك"، فبادهني بسؤاله: "عايز كام؟" فأجبت: "مش عايز حاجة"، وانتهى كل شيء.
ولكن ما حدث أن أعلن حسن السندوبي عن طبع كتاب "الشعراء الثلاثة" شوقي وحافظ ومطران، فهاج فهيم قنديل (صاحب جريدة عكاظ) وكتب في عدد 7 يناير سنة 1923: "لم يضن شوقي بك كما يزعم السندوبي أفندي بطبع شعره مجموعًا في سفر، ولم تقف به همته عند تلك القطعة التي طبعت منذ عهد بعيد، فقد رخَّص لنا منذ ثماني سنوات بطبع الجزء الثاني من "الشوقيات" فأخذنا ننشره في جريدة "عكاظ" استعدادًا لطبعه تحت عنوان "الشوقيات". أخذنا في جمعه وترتيبه، وفي تشكيله وتبويبه، وفي شرح بعض مفرده وغريبه، ولكن ظروفًا وأحوالاً حالت بيننا وبين ما نريد: الحرب التي داهمتنا فغيرت كل شيء في مصر حتى عرشها، إخلاص أمير الشعراء لمولاه، ذلك الإخلاص المبعثر المبثوث في جميع قصائده، قلم الرقيب الذي كان يجد مجالاً فسيحًا في حيفتنا، فيعمل عمله في الشوقيات شطبًا وحذفًا وتشويهًا وإفسادًا. كل هذه الأمور جعلتنا نعدل عن طبع الجزء الثاني من الشوقيات".
ويؤكد السربوني أن صاحب "عكاظ" مغالط، لأن لشوقي شعرًا كثيرًا رائعًا، لا علاقة له بمدائح عباس، ولا سلطة للرقيب عليه، لأنه شعرٌ وجدانيٌّ أو وطنيٌّ، لا يجد الرقيب فيه مساسًا بمصالح البلاد. وقد نشر السندوبي مختارات من شعر الشعراء الثلاثة المتداول المشهور ولم يأت بجديد.
وفي مايو سنة 1926 أصدر شوقي الجزء الأول من الشوقيات (المجموعة الجديدة الكاملة). وفي سنة 1930 أصدر الجزء الثاني، وبذلك تم صدور أكبر وأهم جزأين في حياته وتحت أشرافه. وقد كتب رئيس تحرير الأهرام في 10 ديسمبر سنة 1930 تحت عنوان "دولة الشعر والشعراء، شوقي أمير البيان وصاحب الصولجان في جزء من ديوانه الثاني". أهم ما قاله: "وتجد إهمال التاريخ فاضحًا في هذا الديوان".
مات شوقي في أكتوبر سنة 1932، وفي سنة 1936 صدر الجزء الثالث (المراثي) بعد وفاته. وفي سنة 1943 أصدر محمد سعيد العريان الجزء الرابع، وهو جزء على غير نمط الأجزاء الثلاثة الأولى التي طبعها أو أعدها شوقي للطبع قبل وفاته.
على أن هذا الجزء – كما يقول العريان – ليس كل ما بقي من شعر شوقي بعد الأجزاء الثلاثة الأولى، وأن كل ما دفعه إلى السربوني بما تهيأ لجامعه أن يجمعه.
وظاهر أن أبناء شوقي وسكرتيره – أحمد عبدالوهاب أبو العز – لم يتمكنوا من إمداد العريان ببعض القصائد الكبرى التي نشرها شوقي في العشر سنوات الأخيرة كقصيدة "الله" (1924)، ورثاء علي بك بهجت (1924) ورثاء عبداللطيف الصوفاني بك (1925) وقصيدته في الاحتفال الخمسيني بدار العلوم (1927)، وقصيدته في الحفلة الختامية لمؤتمر الموسيقى (1923) .. الخ.
ويرى السربوني أن الملوم الأول هو شوقي نفسه الذي اعترف في مقدمة أول ديوان ظهر له بما يعتوره من نقص، كما أنه ظل السنوات الطوال بعد ظهور ذلك الديوان يعلن عن إعداد الجزء الثاني من الشوقيات للطبع، ولكنه لم يعد شيئًا.
كان السربوني في تيار الحركة الأدبية الكبرى التي بدأت في أوائل القرن، وكان على اتصال برجالها جميعا. يقول: كانت كل قصيدة لشوقي تهزنا وتضرم في نفوسنا نار الحماسة والحب والوطنية والإيمان والشوق والحنين والأسى على مجد غابر أو حبيب مولَّى. كان ينقلنا إلى عالم الحرية، إلى عالم الجمال والسحر. وإذا كان شوقي يضرب بشعره على جميع أوتار قلوبنا، فما ذلك إلا لأن العبقرية كامنة في شعره كائنة فيه.
إن النغم الذي يشع من شعر شوقي ويطرد ويتحدّر في سلاسة يأتي من أسلوب شوقي، من أعماق ألفاظه ومعانيه معًا، من كيانه وشخصيته، من جوّه وعصره.
ولشوقي قصائد كثيرة بلا توقيع، كما أن له قصائد كثيرة بإمضاءات مستعارة منها (سائح) و(النديم) و(ش) و(أنا) و(شرم برم) و(محتفل) و(أريحية شاب مصري) و(شاب مصري) .. الخ.
على أن نثر شوقي كان أيضا موضع اهتمامنا لأنه نثر شعري، أو شعر منثور، وهو على أية حال مظهر من مظاهر عبقرية الشاعر.
وقد استطاع السربوني إنقاذ طائفة طيبة من شعر شوقي وآثاره، وضمنها في "الشوقيات المجهولة" ويقول: بذلك يبدو وجه شوقي كاملا، كما تبدو عبقريته الوضاءة ضاجعة في أقصى حدودها كالمرج الواسع في أبهى آفاقه. وستظل شخصية شوقي مستوية على عرشها مهما تعددت المذاهب والأشكال في مختلف العصور.
التعليقات