رأيتُ مشهداً خطف روحي وأوقف الزمن في صدري. كان وقعه أعمق من مجرد حزن عابر، بل كان وجعاً حقيقياً، كغصةٍ عالقة في الحلق، حين رأيت مكتبةً تُفرغ من كنوزها، وتُطوى صفحاتها إلى الأبد. في تلك اللحظة العابرة، القاتلة في الشعور، تتكشف أمامنا مأساة صامتة تحمل في طياتها كل معاني الفقد والاغتراب.
مكتبة تُغلق أبوابها وتُباع، كأنها لم تكن يومًا مأوى لفكرٍ يبحث عن ملجأ، أو وطنًا لروحٍ تائهة تسعى لأن تجد نفسها في هوامش كتاب، بين السطور التي نُسجت بخيوط الوجع والأمل معًا. هناك، وسط هذا المشهد المؤلم، رأيتُ طفلًا يقف حائرًا، عيناه تحدقان في كراتين مكدسة بعناية، يشهد كتبًا تُحمل إلى خارج المكان كأن شيئًا فيه يُسحب هو الآخر، كأن جزءًا من روحه يُقتلع مع كل كتاب يُرفع.
في تلك اللحظة الخاطفة، علقت أنفاسي وتجمد الهواء في صدري، وشعرتُ وكأنني أنا من يُباع، أنا من يُغلق عليّ الصندوق. كنتُ مارة فقط، لكنني شعرتُ كمن يُنتزع من ذاته، كمن يُسلب من هويته الأولى.
إن ما يجعل مشهدًا كهذا يوجعنا إلى هذا الحد ليس المشهد في ظاهره، بل ما يستدعيه فينا من ذاكرة خفية، من ذكريات مدفونة في أعماقنا عن ذلك اليوم الذي قرأنا فيه أول كتاب فشعرنا أننا نملك العالم بأسره، أو عن أول مرة لجأنا فيها إلى رف مهجور، فقط لنُصغي لصوت لا يتكلم بل يكتب، يهمس في أذن الروح بكلمات تشفي الجراح وتداوي الأوجاع.
ليست المكتبة مجرد مكان؛ إنها وطن خاص، مملكة سحرية تلتقي فيها الأرواح المتعطشة للمعرفة. بيعها ليس مجرد صفقة تجارية، بل هو خيانة حميمة، كأن ترى حياتك تهدم.
الكتاب ليس مجرد ورق، بل هو نبض مؤجل، فكرة تنتظر أن تُبعث في قلب قارئ. حين يُباع كتاب بلا وداع، نخسر جزءًا من وعينا، من علاقتنا الأصيلة بالعالم، نخسر أحلام المؤلفين ولحظاتنا نحن التي عشناها بين سطوره.
رؤية طفل يقف حائرًا أمام مكتبة تُباع، هذا المشهد يعكس اختلالًا في التوازن، طفولة على وشك أن تُولد أمام ذاكرة تغادر. إنه جيل يُحرم من أن يجد ذاته في رف كان يمكن أن يُنقذه. الخذلان الحقيقي ليس في البيع، بل في لامبالاة العالم بهذا البيع، في أن تمر مكتبة تُغلق ولا يهتز لها شارع. هنا يكمن الوجع المضاعف؛ نخسر الكتب ونخسر قدرتنا على الحزن لفقدانها.
قد يُقال إن التكنولوجيا أغنتنا عن المكتبات، لكن هل تمنحنا الشاشات نفس الحميمية الدافئة، ونفس رائحة الورق، وقدرته على مداواة الروح؟ الإجابة لا تكمن في الشاشة اللامعة، بل في القلب النابض بحب المعرفة.
هذا الوجع الصادق يمكن أن يتحول إلى بذرة وعي، وعي بأن الثقافة ليست رفاهية، بل هوية نحملها. وعي بأن الطفل الضائع اليوم قد يكون منقذ الغد إن أنقذناه نحن بالقراءة. وعي بأننا، أبناء هذا الزمن المتسارع، آخر خط دفاع عن معنى الحياة، إن تمسكنا بالكتاب كطوق نجاة.
لقد أُغلقت المكتبة بقسوة، وانتهى المشهد، لكن الحكاية لم تنتهِ في قلبي. سأظل أؤمن أن المكتبة ليست مجرد مبنى، بل مأوى روحي يحتضن الأحلام. من يبيع مكتبة يبيع شيئًا لا يُشترى بالذهب: الكرامة الفكرية، الانتماء الحضاري، الصلة المقدسة بين الإنسان وتراثه. ومن يحزن لهذا المشهد، فقد نجا من الجفاف الروحي الذي يهدد عالمنا. هكذا تبقى الكلمات شاهدة على زمن رأى فيه عاشق الكتب المكتبات قلوبًا تنبض، ثم شهدها تموت بصمت في عالم لا يكترث لموت الجمال.
التعليقات