هل لامست روحك يومًا حلاوة الاكتشاف المريرة، حين تتجلى لك في صخب يومك المعتاد زاويةٌ هادئة، تفصيلٌ دقيق، لا يحمل في طياته وشوشة ذكرى عابرة، ولا بصمة روحٍ مرت كطيفٍ ثم انمحى في غياهب النسيان؟ تلك اللحظة العذراء، أو العادة البسيطة التي لم تُدنّسها أيدي المشاركة، ولم تُثقلها أعباء الوداع.
إن ذاكرتنا العاطفية، نسيجٌ معقدٌ لا يعرف البراءة ولا يرتضي البساطة. كل نبضة فعل، كل موطئ قدمٍ تحتضنه الأرض، كل شهيقٍ وزفيرٍ يشهد عليه الزمان، وكل لحنٍ يتردد في أعماقنا، حتى عبير الطريق الذي نسلكه... كلها تتشابك في خيوطٍ لا تُفك، مع أسماءٍ ووجوهٍ وذكرياتٍ لا تنفصل.نمضي في رحلة العمر، فنودّع الأرواح تباعًا، كأوراق الخريف التي تتساقط من شجرة الحياة. نظن في سذاجتنا أننا نفقدهم فحسب، لكن الحقيقة القاسية أننا نفقد مع كل رحيلٍ جزءًا من ذواتنا، قطعةً من أرواحنا لا تُعوّض ولا تُسترد.
نفقد عادةً كانت تُضيء أيامنا، لأنهم كانوا شركاء الروح فيها. نفقد مكانًا كان شاهدًا على ضحكاتٍ خفتت أصداؤها، ولم تعد تتردد في أرجائه. نفقد طقوسًا يوميةً صغيرة، تفاصيل هامشيةً ظننا أنها لا تُذكر، لم نُدرك يومًا أن فقدانها سيُحدث في أعماقنا فجوةً لا يملؤها بديل.ولهذا، يتضاعف الفقد، كالجرح الذي ينزف على جرحٍ آخر، لأن الذي يرحل ليس مجرد جسدٍ من لحمٍ ودم، بل يجرُّ معه في غيابه كل حكايةٍ نُسجت خيوطها معه، وكل إحساسٍ تفتّح في ظلال حضوره، وكل لحظةٍ تنفّس فيها قربه.فتغدو الذاكرة كشجرةٍ عتيقةٍ مُثقلةٍ بأغصانٍ متشعبة، تتساقط أوراقها تباعًا مع كل وداع، حتى تبقى أنت وحيدًا، واقفًا تحت سماء الوحشة، أمام عادةٍ بسيطةٍ لم تُلوّثها يدٌ، لم يشاركك فيها رفيق، ولم تُحمّلها ذاكرتك المُتعبة عبء وجهٍ غائب أو اسمٍ لم يعد يُنادى.
وحدها هذه اللحظة المقدسة، لحظة أن تجد شيئًا يبقى لك وحدك، نقيًا من آثار الآخرين، هي التي تُذكّرك بأن بعض التمسك بالبدايات البريئة هو طوق نجاتك الأخير من استنزاف الروح... وأن ما نملكه وحدنا، دون شراكةٍ أو ذكرى، هو أحيانًا ما يُبقينا شامخين حين تتهاوى كل الأشياء من حولنا كأوراق الخريف المتساقطة.
إنه الملاذ الأخير للروح المتعبة، ذلك الشيء الصغير الذي لم تمسسه يد التشارك، ولم تُخضبه دموع الفراق. إنه الجزيرة الأخيرة في محيط الذكريات المتلاطمة، التي ترسو عليها الروح حين تشتد العواصف وتتكسر سفن الماضي على صخور النسيان.
التعليقات