وراء سور الڤيلا الشاهق يجلس هناك على طاولة تتوسط حديقة تمتلئ أركانها بالأزهار النادرة و الورود الفواحة عطورها "أكرم بك" ولفافة تبغه الفاخرة تمتمد أمام فمه و تتصاعد أبخرتها حتى تصل عنان السماء، ممسكا بيده الجريدة، منهمكا بالقراءة حتى قطع حبل أفكاره ذلك العامل من محل الحلوى ..
- العامل: عِمت صباحًا يا بيك..
- أكرم بك: صباح الخير.. ماذا تريد
- العامل: ها هى كعكة عيد الميلاد يا بيك
- أكرم بإستغراب: عيد الميلاد؟ من أرسلها ؟
- العامل: لا أعلم.. أعطاها لى صاحب المحل و أمرنى بالتوصيل هنا
- أكرم : حسنًا تذكرت.. اليوم عيد ميلادى ربما أحدا من المنزل قام بطلبها .. شكرا لك تفضل الحساب
- العامل: الحساب تم دفعه يا بيك...
انصرف العامل و بهدوء بدا على وجه "أكرم" تعامل مع الأمر متوجها للخدم و أمرهم بأخد الكعكة و تجهيزها للإحتفال ليلا، سرعان ما لبثت دقائق معدودة جائته مكالمة هاتفية مريبة أثارت ذهوله الذى تحول للفضول..
-أكرم : ألو.. من؟
-شخص مثير للفضول بصوت غريب: كل عام و أنت بخير.
-أكرم : من معى؟
-بصوت أكثر غرابة: لن تتذكرنى بالطبع، ربما كعكة عيد الميلاد تذكرك من أنا!!
-أكرم : أهو لغز؟!...الوو
انتهت المكالمة بصافرة الإغلاق مِنَ المتحدث..و اتجه أكرم مسرعا للمطبخ وقام بفتح علبة الكعكة بعنف وسط ذهول الخدم متسائلين .. ماذا حدث يا بيك؟!...
أخد يفتح العلبة بلهفة وعصبية ريثما ظهرت أمامه الكعكة المطبوع عليها صورة لأكرم طفلا بجانب أخيه التوأم المتماثل "كارم".. إنه يشبه للحد الذى يجعل الجميع فى حيرة و ذهول.. مَنْ أكرم و مَنْ كارم؟!.. ظل أكرم واقفًا أمام الكعكة وحوله الخدم فى صمت تام، متسائلاً فى دهشة مَنْ أودع الصورة إلى محل الحلوى؟ من أخذها من البوم الصور القديم وجلبها دون علمه؟!... آه العنوان! أين عنوان المحل؟ قرأه مكتوبا على الحقيبة التى أتت بها الكعكة، فانصرف بسيارته متجها بسرعة جنونية للمحل كأنه يلهث وراء المجهول، جال بخاطره أثناء القيادة كل الغرائب التى حدثت بالفترة الأخيرة إلى أن جاءته تلك المكالمة الغريبة، إن من أشهر قليلة كانت تحدث مفارقات ينتابها الغموض،،، يقبض بيديه على عجلة القيادة، يقود بسرعة جنونية، يطأ بقدمه على أقصى سرعة "بنزين السيارة"، عاقدًا حاجبيه متذكرًا ليلة حفلة تخرج ابنه من المدرسة الثانوية وكيف انطفأت إضاءة المكان بالفيلا إثر حدوث مشكلة بذلك الصندوق المسؤل عن الكهرباء دون الوصول لمن الفاعل، تذكر عواء قطة المنزل فجأة أيضا دون أسباب واضحة، إنها لا تعوى هكذا سوى حين الشعور بالخوف أو أن تشاهد ما لا يراه الآخرون، كيف استيقظت ابنته الصغرى ذات فجر تصرح و تكاد تجزم هناك من يراقبها من خلف ستائر نافذة غرفتها، إنها تقسم، تبكى، توشك أن تنهار حين تسمع أنفاسه المتلاحقة، تروى بانهيار أنها تشعر به معها بالغرفة، ثم يعاود صوت عواء القطة يدوى بأسماعه فيزيد من سرعة السيارة وهو يضع يده على أذنيه، يأمرها بالتوقف عما تُسمعه إياه، يوشك على الجنون يضرب بقوة بقبضة يده على عجلة القيادة ريثما وصل محل الحلوى بدقائق لم تتجاوز العشرون دقيقة، نزل بعصبية و توتر يسأل صاحب المحل حول من أرسل له تلك الكعكة وكيف وصلت للمحل تلك الصورة المطبوعة عليها...
- أكرم بعصبية شديدة: أريد أن أعرف مَنْ أرسل لعنوان بيتى تلك الكعكة؟
- صاحب المحل باستغراب: أىُ كعكة تتحدث عنها ؟ نحن نرسل العشرات يوميا لمختلف العناوين، ما هو عنوانك؟
- أكرم بنفس العصبية: الزمالك ڤيلا أكرم بيك.
- صاحب المحل: إنتظر لحظة... أجل أرسلنا كعكة منذ اقل من ساعة على ذلك العنوان.
- أكرم يجز على أسنانه: مَنْ أرسلها؟
- صاحب المحل: أنتَ يا بيك!
- أكرم بذهول و تشتت: أنا؟!!.. هل تظن أن رجلا مثلى يمكنكَ التلاعب معه؟!
- صاحب المحل: العفو يا بيك لكن أنتَ أتيتَ باكرًا و أحضرت صورة لطفلين توأمين وطلبت منى أن أطبعها على كعكة عيد الميلاد و أرسلها لفيلا أكرم بيك.
- أكرم مازال عصبيًا: أنتَ محتال و أنا لم أفعل ذلك.
- صاحب المحل: أنا لستُ بمحتال وها هى كاميرات المراقبة فلتراجعها معى و سترى نفسك.
خرج أكرم من محل الحلوى متجها لسيارته كالمترنح من زجاجة خمر نهل منها حتى بدا على وشك السقوط أرضا، لقد رأى نفسه بكاميرات المراقبة!! كيف ذهب؟ متى ذهب؟ لا يتذكر شيئًا أبدا، وضع رأسه على عجلة القيادة و مازل ينتقل إلى مسامعه صوت عواء القطة، فزع ابنته ليلا، ظلمة و صراخ أثناء حفلة تخرج ابنه، لكنه نهض فجأة من وسط العواء والصراخ والظلمة، بدأ يرفع رأسه من فوق عجلة القيادة ببطء شديد، أخذت عيناه ترنوان فى حيرة بعد النظر يمينا و يسارا و بثبات تذكر ليلة بكاء والدته الضريرة و هى تبكى بشدة حتى فطر البكاء قلبها، و هو يواسيها ويبكى حالها هو الآخر... ظهر عليه الشرود و هو يضيق عينيه كأنما رأى ضباب خفيف على بعد (كالشابورة) حتى بدا له الحوار الذى دار بينه وبينها آناء ليل طالت قساوته على ضريرة فقدت بصرها حزنا على ولدها...
- أكرم: أقسم لكِ يا أمى بأغلظ الأيمان أنى لم أقصر معه فى شىء.
- والدته والدموع تتساقط من عينيها و شهقات تحبس أنفاسها: أعلم أن أحدا لن يصدقنى و لكنى شعرت به منذ دقائق حولى، كان هنا والله كان هنا، رائحته تملأ المكان..
- أكرم: يا أمى أخى كارم بالمشفى يتلقى العلاج، فعلت المستحيل ليستفيق من غيبوبته على مدار عشرين عاما، يعلم الله أنى لم أقصر، لم أتخلى أبدا..
و توقف الحديث حين علت اصوات إرتطام النوافذ عند هبوب رياح كفحيح الأفاعى والبرق يخطف الانظار كأن شعاعا لاح فى السماء يعلن دوى رعود تختطف الطمأنينة من القلوب، بينما ظلت أصوات "الهَزيم" تعلن صيحاتها و وميض البرق ينتشر بالأفق،،، ليلة اجتاحها زمهرير قارص بالكاد كان يمكنه أن يفتك بهم لولا سخونة المدفئة و سخونة الأعصاب لتجمدت الدماء بالعروق، و انتهى الأمر بعد أن احتضن أكرم والدته و وضع على كتفيها شالها الصوفي الأسود و قادها لغرفتها يهدئ من روعها عسى أن تستغرق فى سبات حتى الصباح.....
عاد الضباب الخفيف و ما لبث أن يتبدد من أمامه كأن اتضحت الرؤية شيئا فشيئا، مازال متكأ على عجلة القيادة، بدأ ينظر لهاتفه المحمول ليلتقطه بيد ترتعش و فكر زائغ،،، قرر الإتصال بالمشفى حيث يمكث أخاه التوأم بغيبوبته لأعوام طوال..
-أكرم: مساء الخير.. أود الإطمئنان على كارم بيك غرفة ٦٠٦.
-إدارة المشفى: لقد غادر كارم بيك المشفى منذ ثلاثة اشهر يا فندم.
-أكرم منتفضًا من مكانه: غادر؟! غادر كيف؟!
- إدارة المشفى: فاق من الغيبوبة و ألح بالطلب علينا ألا نخبر أحدًا من أهله فهو يريد أن يفاجأهم.
- أكرم: ألم يترك عنوانه؟
- إدارة المشفى: لا.. لكنه كان ذاهب لبيت أهله.
- أكرم: متى عاد من الغيبوبة؟ و هل كان بكامل وعيه؟
- إدارة المشفى: باليوم التالى مباشرة فور زيارة أهله و دفعهم كل المستحقات المالية للمشفى كان بكامل وعيه سبحان من يحيى و يميت، كأن كتبت له الحياة من جديد..
اغلق أكرم الهاتف فى صمت تام حتى تجمدت ملامحه و اتسع بؤبؤ عينيه ربما من هول ما سمع، من شدة التركيز مرورًا بما فات من أحداث، ربما لتسائلات عدة لا إجابة لها، هو غارق فيما مضى، ليس هناك صورة أوضح أمامه من سرير المشفى، محاليل وأدوية تحاوط الغرفة المبهمة و استغراق أخيه بغيبوبته العميقة.. لكنه توقف عن الغوص بالذكريات و انتبه لأخريات ما جرى، لازالت نفس الأصوات تشوش أفكاره، العواء، الصراخ و بكاء أمه، و ما إن هدأت الأصوات برأسه بدأ قرع طفيف على زجاج سيارته نقله من عالم دار برأسه لواقع أشبه بصفعة على الوجه لم يتوقع أن يتلقاها، تماما كالمجذوب حين تحاصره الحقائق و لا مناص من النزوح إليها والعزف عن "الدروشة" برجاحة العقل، بدأ زجاج السيارة يتحرك للأسفل برفق كمن يمشى الهوينى حتى أعرب عن هوية القارع، أخرج أكرم جزءًا من رأسه ينظر، مَنْ أمامه؟! ، حَدّقَ بنظره حتى كادت مقلتاه أن تنفلت من عينيه، فتح باب السيارة ظل لبرهة صامتًا لا يعرب عن أيهِ ردة فعل، بدأت شفتاه بالتحرك، التلعثم، التأتأة و أخيرا بالنطق الخافت مرددًا "كا كارم" !! أخى!!
-كارم: كنتُ أتوقعُ أن أجدكَ هنا.
-أكرم بصوت خافت: كيف خرجتَ دون علمى؟
-كارم بهدوء : و هل كان ينبغى أن أستأذنك؟
-أكرم محتضنه برعشة جسد مفرطة : المهم أنك بخير ، عودتك هى كل ما يهمنى.
- كارم بسخرية: حقا؟! بما أن رعشة جسدك تزداد أمامى دعنى أقود السيارة بدلاً عنك.
- أكرم محدقًا بكل أجزاء جسد كارم: لماذا لم تخبرني أنك غادرت المشفى منذ ثلاثة أشهر؟ و أين كنت كل تلك المدة؟
- كارم لا يرد فقط يقود السيارة بإزدياد تدريجى بالسرعة وهو ينظر للأمام بحدة غير مفهومة..
- أكرم: كارم أنا أحدثك! ما كل هذا الغموض؟!
- كارم بهدوء يسبق العاصفة: هل أنهيت كلامك؟
- أكرم بتوتر ملحوظ: لا لم ينتهى بعد، تحدثت مع إدارة المشفى منذ دقائق وعلمت أنك خرجت من أشهر مصرًا على عدم إبلاغنا بخروجك، يا أخى لقد فقدت أمك بصرها أثر الحزن و البكاء عليك.
- كارم: و أنتَ ماذا عنك؟
- أكرم: لم أفهم ما الذى تقصده؟!
- كارم : تزوجت من فتاة كنتُ على وشك أن أتزوجها، أنجبت، هكذا تحيا، تنعم بخيرات تركها أبى، تعش حياتك "بالطول والعرض"، أما أنا قضيت شبابى كله بسرير بمشفى حتى شاب شعر رأسى قبل أن أمشطه أمام الفتيات و أنعم به مثلك.
- أكرم بصوت بدأ يرتفع تدريجيًا: فتاتك التى تزوجتها كانت ستتزوج بى أو بغيرى، إنجابى هو رزقى من الله لا دخل لى به، شعرى شاب قبل مشيب شعرك لأنى لم أسعد بحياتى قط،حملت نعش أبى وحدى بصباى و أنت غارق بغيبوبتك التى كدرت صفو حياتى، فعلت كل ما بوسعى حتى تفتح عينيك لو ليوم واحد، كنت على إستعداد أن أجوبَ بك العالم حتى تعود لكنها إرادة الله..
- كارم بهستريا يصفق تاركا عجلة القيادة: برااااڤو برااڤو أكرم.. عانيت أنتَ كثيرا ،، شكرًا على تعبك أخى..
- أكرم: هدئ السرعة، توخى الحذر، يا مجنوون.
- كارم بصوت أعلى و أكثر هياجًا: أنا حقًا مجنون، أنا من قطعت الكهرباء يوم حفلة تخرج ابنك، كان يجب أنا يكون ابنى أنا، كنتُ أقف خلف الستارة بغرفة الفتاة التي كان ينبغى أن تكون ابنتى أنا، تسللت ليلا إلى البيت وأخذت صورتنا و نحن صغارًا و طبعتها على كعكة عيد الميلاد و أرسلتها لك، كانت أمى بالغرفة و شعرت بوجودى..
- أكرم فى صدمة و ذهول: أنت مجنووون.. أنا لم أقصر معك فى شىء... ذلك كان قدرك
- كارم ببكاء شديد و صوت هذيان :قدرى أن أغفو عشرون عاما!! قدرى أن تتزوج حبيبتى، أن تنجبب منها!! لن أدعك و إياها يجمعكما مخدع واحد، فالمخدع الأخير كان معى، كانت معى ولم تستطع التفريق بيننا ..
- أكرم بصوت أشبه بالصراخ: اخرس.. لا تتحدث .. اسكت
- كارم بجنون: التشابه بيننا خدمنى كثيرًا.. لن تنالها بعد الآن.. سنعاود معا هذه المرة إلى المشفى لن أغيب طويلا وحدى ستكون بجوارى على السرير الآخر..ههههه
- أكرم بصراخ حاد: يا مجنووون.. الجدار أمامك، أقف السيارة ...
لم يعد هناك بالمكان سوى صوت دوى إنفجار و إرتطام هائل و الأدخنة تعج المكان،، ثم عاود السكون عدا صوت سيارات الإسعاف وهى تنقل التوأمان للمشفى فى غيبوبة تامة..
التعليقات