في إسطنبول المدينة الساحرة وعاصمة الخيال، قد يكون الآخرون على موعد مع السعادة، غير أن السيدة الأنيقة لم تكن على نفس الموعد، ركضت أميالا دون شعور لذة الوصول أو المثول أمام النهر ويا لعذوبة أنهار إسطنبول وروعتها!، كأنك أمام حلمك الممتد نحو باقات الجمال...
إنها أنيقة بصدق، مثلها مِثلُ بقية نساء المدينة، ترى الجمال يخالطه عزة ورفعة حد الكبرياء، معطفها مصنوع من الفرو الفاخر المناسب لبروة المكان، إنّ البرودة بحد ذاتها أضفت سحرها الخاص، فالزفير ينساب من فمها على هيئة نقوش مرسومة بالدخان الابيض كأنها تَرسم بالثلوج المتناثرة قلوب، ونجوم تتطاير أمامها ثم تتلاشى كألعاب سحرية.
تُمسك بأناملها الرقيقة مظلة تحتمى بها من زخات المطر، تحمل نفس لون معطفها الأخاذ، وحين الوصول ألقت بنفسها على مقعد خشبى بالقرب من حافة النهر بينما على حافة نفس المقعد من الجانب الآخر كان هناك رجلا يبدو ببداية العقد الرابع من عمره، ذو جاذبية، يملك عينان يفيض منهما لون النهر من أمامه، وسيم كشأن معظم سكان إسطنبول الأتراك، أنتَ فى تركيا إذن أنتَ هنا بحضرة الجمال وإن كنتَ قد جُبتَ سلفًا أوربا بأكملها...
جَلست بكامل أناقتها على المقعد وعلى الطرف الآخر له جلس الوسيم يتفقدها برفق، كانت بكل شرود كمن تشكى حالاً لرفيقٍ تفيض عيناه وجوارحه كل الدموع من أجلها، إنه النهر من أمامها كالرفيق والجليس والحبيب، تلوح بعينيها له فتطلق بواخره صفيرها ردًا عليها، تُحلقُ الطيور البيضاء أعلاه تعلن عن ترحيب ومودة لها، ثم تطيل النظر بالأفق البعيد هربًا من لقطات قد تعكر صفو نفسها بالمكان، اللقطة الاولى صفعة قوية من زوجها السكير تلقتها حين مرضت يوم ولم تقوى على الذهاب للعمل وجلب المال لعربدته وسكره ونسائه، اللقطة الثانية وهى تتوسل له، المنزل دون طعام وصغارها جياع، تكاد أمعائهم الصغيرة تأكل بعضها، كيف يترك صغاره بمثل هذا الوضع؟ لم يتبقى بالبيت نصف ليرة بعد أن دفعت هى إيجار المنزل ومستلزمات الملابس، الخ...
شعور يتملكها بإنقباض القلب وغصة تملأ النفس فيفيض النهر من جديد، وصفير الباخرة يعاود الأنين والوسيم يراقب دموعًا تتساقط فى صمت، يتسائل فى دهشة! ما بها سيدة تطل بمعطف فاخر ومظلة منمقة كنعومة صاحبتها ويد تمسك بالمظلة توحى بالراحة؟! أعتقدَ أنها لم تقترب الأوانى قط، لم تُرتب منزل أوتُجهَد بالعمل أو الأسواق أبدا، لكن عيناها تبدو مجهدتين، تبدوان على ما لا يرام، تبكيان بأناقة، حتى البكاء مهندم، متكبر، ليس له ضجيج....
أخدت لقطاته تتوالى هى الأخرى فى تتابع مخيف، سخيف، متبعثر بوجدان متألم نصب عينيه الساحرتين، السارحتين...
زوجته؟!... آه من زوجة حمقاء لا تتورع عن الصراخ بأطفالها على مسمع ومرأى الجيران والحى كله، إنها لا تجيد ممارسة المودة والتفاهم أبدا، لا تتنازل عن السخف مهما كلفها الأمر، يشمئز منها جدران المنزل فهى لا تجيد سوى الغثِ من القول، يتجنبها الجميع حرصا على كرامته... أطبق جفنيه والأمطار قد بللت وجنتيه وجعلت خصلات شعره الأمامية تلتصق بجبينه وصافرة الباخرة تعلو.. تمنى لو أن يعود بيته ليجد السيدة الأنيقة محل زوجته، خُيّل إليهِ أن لابد لها من زوج يعلن كل صباح عن محبته لها، لابد لها من العيش بقصر من قصور الأميرات، يليقُ بها أن تُهْدى بالورود وأزهار "الزنبق والأقحوان" عند شروق كل شمس، يكادُ يجزم فى نفسه أن زوجها من السعداء.. يستديرُ تجاهها ليجدها لازالت دامعة العينين تنظر له خُلسة، يُخيل إليها أن ذلك الوسيم لابد له من شريكة ظفرت به لتحيا وتنعم معه للأبد، لابد لهما من السعادة المفرطة، الإنطلاق نحو الحياة بحلوها ومرها، تمنت لو أنها تعود للبيت لتجدَ زوجها بشوش الوجه مبتسم، ذو نظرات تنبعث منها الحياة كنظرات ذلك الوسيم... كلاهما لا يدرى حقيقة الآخر، المظاهر تخدع، تشوش العقول، لا أحد يعلم ما يعانيه الآخرون، ما تكابده الأنفس، الباخرة تبحر بحرية وطلاقة وعلى سطحها ألف حكاية وأخرى ...
من مقعدها الدافئ ذرفت آخر دمعة فتجرأ هو قليلاً وتوجه لها سائلاً إن كانت تحتاج مساعدة فأجابت بإبتسامة حالمة باللغة التركية قبل أن تنصرف " تِشِكورلار".
التعليقات