ربما افترقنا لكن ما زالت كل الصباحات تبدأ من أجلك وما أزال أبدأ معهم أوربما قبلهم... عبث! توهمت أننى كنتُ قد تخطيت!! كيف تدرجت وانسلبت بكل هذا العمق؟!. يمكننى أن أكمل أعوامى وأنا أدقق بوجهك ولا عجب فى ذلك أنتَ شقائى الكبير..
الثانية عشر ظهرًا تهفو"أمل" مسرعة بمطار القاهرة الدولي تمارس إجراءات السفر المعروفة، تتنقل هنا وهناك بشغفٍ وما إن وصلت لصالة الانتظار أخذت أنفاسها تتصاعد كالتائه بطريق لا نهاية له، لا تعلم إن كانت تنتظر طائرتها أم أنها تنتظر مصيرها المحتوم بالبعد، لابد لها من كبح جماحها نحو عاطفة ليست من حقها، لن يبقى لها شيئا منه سوى بعض الصور التذكارية معه التى وضعتها بحقيبة يدها وما بين دقائق وأخرى تتحسس حقيبتها كما كانت تتحسس "وجهه" للمرة الأخيرة، وقت قليل ولسوف تقبع بطائرتها تاركة الكثير من نفسها... الكثير منها..
تلك هى العشيقة المجهولة للاعب كرة القدم الشهير، كانت منذ بدايته لا تترك مباراة له إلا وأن تضع بصمتها بها، دائما أول المتفرجين بالمدرجات، حريصة كل الحرص على إلتقاط الصور له أثناء اللعب، أول المشجعين وأعلاهم صوتًا، أول من تخر قواه حين إصابته أو سقوطه بالملعب، تمتلئ غرفتها بصوره المتعددة رغم العقاب الذى ينتظرها إثر شرائها كل صورة وتعليقها على الحائط، لم تنتبه أبدًا أو تحمل هَمّ عقوبة أوتلقيها "علقة ساخنة" من جانب أخيها الأكبر كي تتخلى عن الأمر برمته، لم تستجب مطلقًا لشبابٍ تقدموا لخُطبتها دون اكتراث منها، صاح أخوها بوجهها ذات يوم بوجه ممتعض وصوت أجش:
(ستموتين وحدك وستتعفن جثتك ولن يدركك أحد..)
فى قرار نفسها هى تعلم جيدًا أنها على خطأ فهذا الشهير بملعبه لديه ما يكفيه من المعجبات لكنها كانت الأفضل والأميز دائما بل والأحب لقلبه، لكن ليس كل ما يتمناه القلب ويرسمه العقل يناله، صديقنا اللاعب متزوج ولديه أبناء صغيرة، كيف ستتخطى هى معه ذلك الأمر؟!. العقل يرفض والواقع لا يتقبل أن تغدوزوجة ثانية تَقبل بنصف رجل بل والأدهى أن تُلقب بالمقولة السخيفة والمشينة غالبًا "خطافة رجالة".. لن يدعها المجتمع وشأنها، لن تحصد سوى الأسى والخزى بعد أن صارحها:
- أتستطيعين العيش معى فى الخفاء؟ لن أقوى على مصارحة زوجتى وهدم بيتى وأنا أنطفئ بعين أبنائى..
- لا تكمل حديثك.. (وتضع يدها على فمه وتكمل..) ولت أعوام عضال ونحن على ما عليه، فاتنى قطار الزواج ولم أندم، تخليت عن أهلى واكتفيت بك، أيصعب علىّ أنْ أكمل وأنا كما أنا؟!. سأهاجر من البلاد وأذهب للحد الأبعد للعالم، لن أعود حتى وإن إشتقت أو صرعنى الحنين..
كانت تلك كلماتها الأخيرة كرصاصة الرحمة إذ تذكرها وهى جالسة بصالة المطار وتنظر سارحة فى المدى البعيد.. تقترب منها بخطوات ثابتة!.. من؟.. صديقة الصبا "رجاء".
الهاربة كذلك من ماضٍ لعين، اختارت "رجاء" البُعد بعدما خفقت بحياتها الزوجية وحُرِمت من ابنتها ذات الأعوام القليلة، يا له من أصعب الإخفاقات، تعافر وتتوسل لطليقها ليترك لها ابنتها دون جدوى، لم يكترث لترجيها وتذللها ابدًا، قاسى القلب، غليظ اللسان والكلمات، متسلط حدّ التحكم والنفوذ، ليس لها من حيلة سوى المغادرة والهروب من لعنة الإشتياق فى مصاحبة جارتها والصديقة الأخرى لـ"أمل".. "عواطف" التي قررت هى الأخرى الذهاب وترك البلاد، كانت "عواطف" تتحدث معهن عما تكابده بعد وفاة والديها اللذان عز عليها كثيرًا فراقهما، إن عواطف كانت تتفانى فى حبها وخدمتها لهما حتى أنفاسهما الأخيرة، هى الابنة الصغرى، الأحن والأكثر مراعاة لهما فى كبرهما للدرجة التي جعلتها كرست حياتها لهم ونسيت نفسها والاهتمام بها ومراعاتها، نسيت أنها تحيا على الأرض معهم...
وهناك فى ساحة الانتظار جلسن الثلاثة ينتظرن نفس الطائرة للإقلاع خارج البلاد وهن يحملن أنينا متواريًا خلف ابتسامات مهزومة مصطنعة، على موعد لم يُخطط لترتيبه ولم يكن بالحسبان، كأن عذابات وحنين أطفأ جمال الأوجه ونضارتها، يتبادلن نظرات تحاكى جروحًا دُفِنت بالأعماق..
-أمل: كما يقال حقا "الدنيا صغيرة" لم أُخَمّن يومًا أن نجتمع فى مثل هذا المكان وبظروف كهذه، يمر الآن فى ذاكرتى "كشريط سينمائى" ذكرياتنا سويًا، كنا أبرياء، بنات نفس الحى، الأحلام تغمرنا، السعادة تملؤنا كأن القادم حتمًا سيمنحنا ما نريد، لقد انتهى كل شىء، الأحلام والأمنيات، حتى السعادة باتت كورقةِ شجر باهتة أتلفتها تقلبات فصول السنة الأربعة، مازلتُ أُحب وأشتاق لكن ليس كل ما يشتاقه القلب يناله، أحيانًا أو بالأحرى غالبًا ما يشتاقه القلب هو شقائه، إننى أشتاق لشقائى وسأذهب للبعيد حتى أكف عن اللهث وراءه.
- عواطف: ماتت كل أحلامى بموت أمى وأبى وضلت السعادة طريقها بقلبى وما أعتصر فؤادى تخلى اخوتى عنى، لم أصدق حين أعطونى حفنة من المال واعتبروه ميراثى حتى ارتحل بعيدا عنهم، كانا والدىّ يشعران بغدرهم فتركوا لى ما يعيننى على العيش بدونهم ودون علمهم، معي المال ولست أملك من الأمان شيئًا، ربما أجد ضالتى واطمئنانى بمكان آخر، ربما أحيا من جديد دون أسى أوفقدان عزيز..
- رجاء: أتفطر شوقا لرائحة ابنتى، عيناها الجميلتين ذات الخضرة الناعسة، كفوف يديها الرقيقة، ضفيرات شعرها المنسدل وأنا أصنعها برفق وتَجمّل، لم تغب عن بالى نظراتها الحانية بينما أعانقها للمرة الأخيرة وتغيب عن عينى للأبد، ليتنى مِتُ قبل ذلك اليوم، لم أعد أقوى على مقاومة اشتياقى لها، خارت قواى، كيف له أن ينتزعها من أحضانى وأبيت ليلى بلوعة الحرمان؟.. ما أقبحَ قسوته!.. وما أطوله عذاب قلبى!..
- أمل: بداخلى رغبة فى التخلى عن السفر، ما رأيكن يا بنات إذا قمنا باستئجار بيت يجمعنا، معنا سنكون أقوى، سنآزر بعضنا البعض، ستواسى كل منا الأخرى، سنواجه تلك المنغصات معا دون ترك بلادنا، أشعر بأن كل شىء سيصبح بخير وأن القادم سيكون هوالأروع، ستتبدل الأحوال وسنبتسم من جديد.. هيا فكرن دقائق وطائرتنا ستقلع..
- عواطف بضحكة خفيفة ساخرة: ستظلين فتاة حالمة حتى تموتين، تخلى قليلا عن رعونتكِ تلك وكونى أكثر رصانة، وددتُ لوأراكِ صلبة لا تنجرفين إزاء رغبات قلبك.
-رجاء: افهمكِ جيدًا يا "أمل" تريدين البقاء جانب "حبيب القلب".. لن تتغيرى أبدًا مهما تغيرت الأقدار، انزعيه من نفسك هوليس لك وانزعى معه كل ما فات.. هيا لطائرتنا.
فى الدقائق الأولى بالطائرة يستعدن أخيرًا، يربطن الأحزمة والأعين تتلاقى وتتحدث فى صمت هل فعلاً يفكرن بالتراجع والنزوح من الطائرة قبل أن تغدو محلقة فوق السحب؟ هل مازالت هناك فرصة أخيرة للبدأ مثلما حلمت "أمل"؟ هل سيجدن الراحة بالترك والتخلى أم أن العلة ستزداد حين افتقاد رائحة الوطن؟!
إننى أرقبهم من بعيد وأنتظر قرارهم وفى أذنى تلك السماعات الحديثة المتصلة بهاتفى، أستمع لشارة سورية بصوت "نورا رحال".. ما أعذبها من كلمات وألحان..
ألا حبذا حبذا حبذا
حبيبٌ تحملتُ منه الأذى
بنفسى يا من اشتكى حبه
وما أن شكى الحب لم يكذب
ومن لا أبالى رضا غيره
إذا هو سُر ولم يغضب
ألا حبذا حبذا حبذا
حبيب تحملت منه الأذى..
ثم تنتابنا فجأة كآبة وصمت تجعلنا لا ندرك حتى الأشياء
الكاملة الوضوح ونرفض المحاولة، حتى المحاولة ترهق عقولنا وتجذبنا نحو القاع أو اللاشىء..
لا مكان يخلو منك فتوار كيفما تشاء..
التعليقات