انحناءة ظهرها القادمة من عتمة غرفتها الوحيدة في بئر السُّلَّم قذفتْ في روحي مهابة جميلة. خَطْوها البطيء العجوز جليل، جعلني أنحني ماداً يدي برفق كأنِّي أخشى أنْ تنكَسِر، ثُمَّ بتلقائية ربتُ يدي على قوس ظهرها المائل للأمام. حين رفعتْ وجهها لوجهي، قالت: صباح الخير. أضاء وجهها روحي، قلت: صباحك فل ولمْ أقل أنَّ الوقت تجاوز الظَّهيرة.
كنتُ أريد المرور من مدخل العمارة الصَّهد وكانت تقف أمامي في ساحة جنَّة طرية خاصة بها وحدها وراودتني رغبة أنْ أنعطف جانبها لأستمتع فرأيتُ في يدها حقيبة السُّوق فسألتها: إلى أين؟ قالت: أشتري أرغفة. قلتُ: سأشتري لك وأرجع بسرعة. قالت: أنت مرهق.
برفق متلهِّف خطفتُ من يدها الحقيبة ونسيتُ أنْ أسألها كم رغيفًا تريد. فاشتريتُ خمسة. وجدتها تجاهد بمشقة ناعمة لدخول غرفتها. حين اختفى طيفها خفيفاً داخل الغرفة، أسرعتُ إليها ووجدتني أمام بابها المغلق، طرقت فلم ترد. طرقتُ فأتاني صوتها: ادخل، عميقاً كمستيقظة من ساحة نعيم.
وضعتُ لها الأرغفة قالت: ما هذا؟ قلت: الأرغفة التي طلبتها، قالت شكراً وأردتُ الخروج فقالت: القروش تحت الورقة، قلت: لن آخذها، اعتبريني كابنك. قالت أنت أكثر من ابني، يكفيني أنَّك أحضرت الأرغفة لي وكأنَّك شعرتَ أنَّني لن أستطيع الخروج من غرفتي ولن أغادر فراشي، فقد كنت أتمنى أنْ تحضرها أنت لي. أنت ابن حلال يا ابني. سألتها ألم تخرجي اليوم؟ ابتسمتْ وتركتني أنظرُ لشعيرات رأسها الفضية الهاربة من تحت غطاء رأسها ولم تتكلم. قلت لنفسي: كِبَر السِّن يفعل كثيراً. قالت: لماذا زوَّغتَ من عملك اليوم؟ قلت: أنا لم أقل لك أنَّني زوَّغتُ من عملي اليوم. قالت: أعرف، وأعرف أنَّك لن تقول أنَّك زوَّغت من أجل أن تحضر الأرغفة.
نظرتُ لشعيراتها البيضاء وتحننتُ عليها كأنَّي أوافقها. قلت: نعم، من أجلك ولم أقل أن اليوم جمعة. قالت أنت كريم وأشارت للمصحف وطلبتْ إحضاره وكانت لا تقرأ وكنت أعرف أنَّها لا تقرأ، لكنَّها ابتسمت وقبلتْ المصحف واحتضنته وفتحته أمامها، انحنت عليه وراحت تنظر في القرآن كأنَّها ليست معي وكأني غير موجود، فوقفت جانبها أشمّ روائح نعيم الجنة.
التعليقات