عودة إلى أربعينيات القرن الماضي، بالتحديد في شارع العطارين بحي الجمالية، أحد أهم أحياء القاهرة القديمة، كان الحاج حكيم يقطن بجانب محل عطارته. يفيق باكرًا، مستعينا بالله، يفتح دكانه العتيق المعبق بروائح العطارة والبخور والأعشاب التي تخالطها روائح الزمن القديم. لا شيء يضاهي أبدا أريج تلك الرائحة، إن شذاها وحده كفيل أن يشفى كل علات البشر. هناك، صوت قرع قبقاب حريمي قادم من بعيد مع خرفشة خلخال يكاد يَطرب كل مسمع عن قريب.
• حاج حكيم .. يا حاج حكيييم!
• مين؟؟ نعمين يا ست إحسان.
• عملتي التحويجة اللي كنت طالباها منك؟
• وأنا أقدر أنسى بردك يا ست إحسان ... إتفضلي، طلبك جاهز عندي منذ يومين.
• على ضمانتك دي يا حاج؟
• عيب يا ست... إن شاء الله تنولي المراد ويرزقك بعيلين في بطن واحدة.
• يسمع من بؤقك يا خويا، إن شاء الله يسترك في الدنيا والآخرة.
ورحلت إحسان مطمئنة لتحويجة الحاج حكيم، يحتلها شعور أن هذه المرة ستصيب وقد تنجب خلال تسعة أشهر بالتمام بعد انتظار دام عامين. فتلك التحويجة بنظرها ساحرة بكل المقاييس وعالم التداوي بالأعشاب.
وعلى ذكر القبقاب الذي يعتليه خلخال الست إحسان، هناك قادمة أخرى ترتدي أيضا قبقاب أروع من سابقتها و"ملاية لف" لم تزدها إلا جمالاً أخاذاً. وبالحديث عن الجمال، ستُسحَر لو تفقدت عينيها اللتين تطل بهما من وراء البرقع. الشبيكة بينهما قصبة نحاسية ممتدة على طول أنفها ولو أنك مولع بالتمعن، لرأيت "المنديل أبو أويا" يتدلى من أعلى جبينها ليضفي أنوثة ناعمة بالغة الحد. محادثتها:
• عم حكيم ... الآقيش عندك تحويجة، الواد الصغير طول الليل الكحة قاطعة نفسه يا قلب أمه.
• مسم (تعبير يدل على مص شفتيه).. هوه عمك حكيم يقدر ميلاقيش طلبك؟ أحلى تحويجة للواد الصغير .. ألا قوليلي، هو اللفندي بتاعك رجع من السفر ولا لسه؟
• راجع آخر الأسبوع إن شاء الله.
• بالسلامة يارب.
• خلتك بعافية يا حاج.
• الله يعافيكي يا ختي،،،،، بقى حد يسيب المهلبية دي ويسافر يا جدعان، عالم مبتفهمش صحيح.
كان من الممكن أن يتزوج الحاج حكيم بعد وفاة زوجته، لكنه رفض وقرر أن يكمل سنواته الباقية القصيرة على حد تعبيره، ما بين الدكان والمسجد، رغم شعوره الذي كان يراوده من حين لآخر بأن يتزوج ولا يظل دون امرأة. هكذا، إن أبنائه يواصلون السؤال عنه ولا يقطعون عنه الزيارات، خوفا من أن تدخل حياته زوجة تحتل مكانة والدتهم وتصبح شريكة لهم في الميراث. كانوا دائما حريصين على ملء فراغه والمداومة على التقرب منه... حل المساء بالحي، ويا لجمال الجمالية ليلاً حتى أن السكون خلاب،،، من القادم لدكان العطارة ليلاً؟ إنه العم أبانوب ..
• سعيدة يا عم حكيم.
• يسعد مساك يا سي أبانوب. أي خدمة؟
• من فضلك، كنت عاوز "لبخة" لشعري، بس مش هوصيك يا أبو الحكم، أصل دماغي بعيد عنك. مبقاش فيها ولا شعرة وبقيت على طول لابس الطربوش، العيال بقت تخاف مني في البيت حتى البت "المسغودة" الصغيرة، كل ما تشوفني تقول بابا الأقرع جه.
• تصدق بإيه، أنت ابن حلال يا أبانوب أفندي. أنا لسه جايب "لبخة" لكل مشاكل الشعر وخصوصا الجماعة القرع اللي زي حالاتك... آآآه، لامؤاخذة، اللي شعرهم بيقع كده زيك.
• ودي هتجيب نتيجة سريعة يا عم حكيم؟!
• إلا هتجيب! طبعا هتجيب. أنت بتشكك في قدراتي؟!
• أبدًا، العفو.
• ياراجل، اتكل على الله وادهن منها صبح وليل، وهتشوف بنفسك إنك كنت تيجي وأنت فارق شعرك من النص ومحدش قدك وتشكرني... وخرج العم أبانوب، وكل ما يجول في نفسه كيف سيتحول حين ينبت شعره. ربما ستزداد وسامته وتتهافت عليه الجميلات أو على الأقل لن تعايره ابنته الصغيرة بعد الآن،، آه يا له من شعور مثير.
أدجى الليل أكثر حتى وصل غاية ظلمته، وكان على الحاج حكيم أن يغلق دكانه، طبعا بمساعدة ولده الكبير...
• "قفل يا ابنى النور اللى جوه عندك ده.."
صوت ينادى من بعيد في رجاء: "استنى يا حاج، متقفلش."
• "استنى يابنى، ده باين في زبون جاي.. الله، مين؟ حاج اسماعيل، عريسنا."
• "ممكن نتكلم على جنب يا عم حكيم؟"
• "ايوه طبعا، اومال... اومرني."
• "الأعشاب اللي إديتهالي المرة اللي فاتت، معملتش حاجة، وأنت فاهم أنا عريس جديد والعروسة شابة صغيرة."
• "أنت موطى صوتك ليه طيب؟ على العموم، طلبك عندي يا سيد العرسان، هتاخد معلقة من الأعشاب دي وتدوبها في طبق شوربة كوارع وبعدين تحبس بكوباية شاي تقيل، وهتدعيلي."
• "ما توطى صوتك أومال يا حاج، ميصحش كده، الناس كلها سمعت."
وانصرف الحاج اسماعيل في تأدة دون أن يسمع قهقهة ابن الحاج حكيم الخافتة، قليلا، محاورًا أباه:
• "هو إيه أصله ده... هو الراجل ده لسه فيه حيل يتجوز تاني، لأ، وكمان عيله صغيرة... أما عجايب صحيح."
• "يا ابني، الدهن في العتاقي."
• "بقولك إيه يابا، إنت طول النهار واقف على حيلك تعمل 'إشي' خلطة و'إشي' تحويجة وتشوف طلبات الناس، آعمري ما شفتك ليك طلب من عندنا هنا من الدكان، يعني مانفسكش في حاجة زي خلق ربنا دي كلها؟"
• "نفسي والله يا ابني."
• "نفسك في إيه بقى؟"
• "نفسي في طبق ملوخية بالأرانب من إيد الحاجة، الله يرحمها ويحسن إليها."
• "طبق ملوخية بالأرانب من إيد الحاجة؟ طب ازاي ده بقى؟ أقولك، جرّب إعمل تحويجة!!!"
• "بتتريق على أبوك؟! يلا ياد يا ابن ال....."
التعليقات