سيدة جميلة أخدت من اسمها نصيباً فكانت ذات بشرة سمراء تتوسط وجهها دائماً ابتسامة ضاحكة تحمل حب العالم.
كنت أتوسط مجلسها وينشرح قلبي بالوقت الذى أقضيه داخل منزلها فتلك الخالة الجميلة كانت أماً كما يقولون ولكنها ليست عبارة إعتيادية نقولها فى الحكاوى التقليدية، فتلك السيدة كانت تحمل فى قلبها الكثيرمن المحبة لنا نحن أبناء وبنات أخواتها المغتربات عن القرية الصغيرة واللاتى كن يأتين سنوياً من المدينة الكبيرة المزدحمة بالهواء الملوث الى هواء القرية الصحى فى زيارة لا تستغرق أسبوعا أو إسبوعين.
كنت طفلة صغيرة تميل إلى ممارسة الحياة الريفية بكل تفاصيلها بمجرد دخولى لمنزلها والذى كان يمتلىء بنا جميعاً رغم أنه ليس بيت العائلة الكبير لكنه كان البيت الذى يمرح فيه شبابنا وتتعالى ضحاتنا هنا وهناك ولا نمل نحن أو هى من سرد الحكايات ولكن أمتعها كانت حكاياتها ، فأظل أطلب منها أن تقوم بالخبز فور وصولنا (ولمن لا يعلم فيوم الخبيز يوم تحدده كل اسرة ريفية للتجهيز وعمل الخبز فى الافران المنزلية بما يسمح بعمل كمية وفيرة تكفى أياماً وأحياناً أسابيع ).
لم تصدنى يوما ولم تمتعض من إلحاحى وكانت تدعونا جميعا للغذاء مع قضاء يوم كامل فى بيتها الممتلىء بخيرات الريف الجميلة أو كما كانت فى الازمنة الراحلة ونقوم بالخبز معها ورغم كوارثى وعدم خبرتى وما يصيب العجين من تدهور حالته وكأنه عمل فنى غير مكتمل ، كانت تضحك ولا تردنى بل تعلمنى بالصبروالتكرار .
رغم خوفى الدائم من المنازل الريفية سابقا وتاريخى مع بعض الظواهر الكونية التى يعجز عقلى عن تفسيرها كنت أهوى البقاء فى بيتها مع أبناء وبنات خالتى وسهراتنا الليلية فوق السطوح تجاورنا الأرانب والدجاج ولا مانع من بعض البط النائم فى هدوء ترافقنا أكواب الشاى الثقيل ، وسؤال دائم يتكرر مع كل زيارة (هنا أحسن ولا بورسعيد ) واتحرج من الإجابة مع حيرة شديدة فأنا أهوى الإثنين بنفس القدر .
لم أنسى يوما (النملية ) وكانت أفضل من الثلاجة كثيرا رغم التقدم التكنولوجى الكبير الحالى إلا أن تلك النملية كانت وكأنها تعطى للطعام مذاقاً مختلفاً يجعلنا ننهل منها ولا نكتفى ، كانت لها طريقة مميزة فى النداء علينا لتروى لنا سراً أو هكذا كنا نظنه حينا تخفض صوتها لتهمس وتحكى ونكتشف أنه موضوعا عادياً لا يرتقى لتلك الهمهمة ولكنها كانت طريقتها التى كنا نحبها كثيراً ونروى من خلالها النوادر.
إن رحيل خالتى سمارة كان موجعاً كثيراً ويحمل مفارقة قدرية فزوجها عم إبراهيم توفى فى رمضان وقمنا بواجب العزاء وكنت أراها ساهمة فى جلستها ولم أتخيل مطلقاً أن ترحل بعده بعشر أيام أو أقل وأذهب أنا وأخواتى للعزاء فيها فكيف رحلت الإبتسامة عن هذا المنزل بهذه القسوة .
كنت أطوف بنظراتى داخل الغرف هنا وهناك وكأن عمراً كاملاً يمر أمام عيني ومن تلك اللحظة أدركت ولست وحدى _بل كل من تعامل مع خالتى سمارة_ حجم ما فقدوه من قيمة تلك السيدة التى كانت فى الاوراق الرسمية خالتى ولكنها كانت تمثل لى القلب الذى يتسع للجميع بنفس القدر ونفس المحبة .
فى ظل تقدم تكنولوجى كبير يسعد به شباب هذا الزمان فقدوا كثيراً من روابط عائلية يتحدث فيها أناس مع بعضهم البعض بدون حواجزإلكترونية ، ضاع منهم علاقات أسرية دائمة وصارت وقت اللزوم أو إن أمكن ، سقطت منهم أحاديث مباشرة وتم إستبدالها برسائل واتساب أو ماسنجر وإحتلت الغربة قلوبهم وصار الكل سواء .
أنا ممتنة كثيراً لوجودى فى زمن مختلف عن هذا الذى نعيشه والذى جعلنى أكون ذاكرة جميلة إحتلت جزءاً كبيراً منها خالتى سمارة لتبقينى على قيد الحياة وسط هذا الجمود الذى يحيط بينا جميعاً فإليها أرسل دعوات ارحمة والغفران ....أمين
التعليقات