بدونه تتحول حياتنا إلى روتين، تتساقط الألوان من حولنا، ويصبح كل شيء رمادي، يبدأ اليوم بدون توقعات، وينتهي بدون إنجازات، تتلاشى الأحلام، تنفد الطاقة للنهوض كل صباح، يُطاردنا الشعور بالتعب والإرهاق، نعيش بدون حافز يُغذي أرواحنا ويُشعل طاقتنا على الاستمرار.
تصبح الأيام طويلة، والليالي أطول، نشعر بأن الزمن قد توقف، ووقودنا قد نفد، وأن الحياة قد فقدت معناها، لا نجد سببًا مقنعًا للابتسام، ولا حتى سببًا للبكاء، شعور بالفراغ يملأ فراغًا آخر داخلنا، شعور بالوحدة رغم الزحام من حولنا، نتجول في الحياة بدون هدف أو مغزى، ننظر إلى الساعة ونتساءل: "متى سينتهي هذا اليوم؟" نشعر أننا محاصرون في وضع لا نستطيع الهروب منه، ولا نعرف كيف نُغيره.
إنه الشغف، تلك القوة الخفية التي تعيش داخل ذواتنا دون أن نراها، لكننا نتحسس وجودها، هو المصباح الذي يُضيء طريقنا ويُرشد خطانا نحو تحقيق أحلامنا الكبرى والنجاح الذي نصبو إليه، الشغف ليس مجرد شعور عابر أو ولع سريع، بل هو وقود يشتعل في أعماقنا ويجعلنا نتجاوز حدودنا ونتحدى التحديات نفسها.
الشغف هو القوة الخفية التي تدفعنا للتقدم في عمل ما نحب، دون الاهتمام أو النظر إلى التضحيات التي قد تطلبها رحلة النجاح، هو ما يُحوّل الصعاب إلى فرص، والأحلام إلى واقع ملموس.
إذا، دعنا نبحث عن الشغف، دعنا نعيشه، ونشعر به، فهو يغير مجرى حياتنا، ويُغير نظرتنا للعالم، ويُحدث فرقًا كبيرًا في حياتنا، وحياة الآخرين، فالشغف هو القوة الدافعة لحياتنا، هو الشرارة التي تُضيء دربنا وتُضفي على حياتنا معنى وجوهرًا، ويجعلنا نشعر بالرضا والسعادة الحقيقية.
الشغف هو من يُحول أشخاصًا عاديين إلى أبطال ومبدعين، ويولد الإبداع ويثير العبقرية المكبوتة في أعماقنا، إنه المصدر الذي يُغذي أرواحنا وينير عقولنا، ويحرك قدراتنا الكامنة، ويخلق حالة من التدفق تُعيد تشكيل حياتنا، نجد أنفسنا أكثر رضا وتوازنًا، نشعر بالإشباع والسعادة الداخلية. يدفعنا للخروج من مناطق الراحة واستكشاف حدود إمكاناتنا الحقيقية، يمنحنا الشجاعة لمواجهة التحديات وتحقيق المستحيل.
ما أجمل الشغف عندما يُحدث توافقًا بين ما نحب وما نفعل، وبين قدراتنا وأهدافنا في الحياة، بالشغف نجد الجمال والإلهام في كل خطوة نخوضها في حياتنا، فقد يكون الشغف هو السر الحقيقي لتحقيق السعادة والنجاح في هذا العالم.
من الكتب المهمة التي تناولت موضوع الشغف بصورة شمولية متكاملة، الكاتب البريطاني كين روبنسون، في كتابه (The Element – How Finding Your Passion Changes Everything) "العنصر: كيف يمكن أن يُغير العثور على شغفك كل شيء"، والذي يستعرض قصصًا واقعية نجحت في العثور على شغفها في الحياة، وإلى أي مدى كان لهذا الشغف دور كبير في نجاحهم بلا حدود، نتيجة لالتقاء ما يُحبون مع ما يفعلون، وهنا يأتي الشغف الحقيقي، الذي يُعلمك كيفية البقاء صادقًا مع نفسك، ويجعلك تعيش الحياة التي كنت معدًا للعيش فيها.
يُشير كين روبنسون بمصطلح "العنصر" إلى تلك النقطة التي يتقاطع فيها الشغف مع الموهبة، وهي الحالة التي يكون فيها الإنسان في أفضل حالاته، حيث إنه يقوم بما يحب وفي الوقت نفسه ما يُجيده، واستعرض العديد من الأمثلة لشخصيات نجحت في اكتشاف هذا "العنصر" الخاص بهم. وهؤلاء لم يكونوا فقط ناجحين في مجالاتهم، بل كانوا أيضًا سعداء؛ لأنهم كانوا يقومون بما يحبون، ويشعرون أنهم يعيشون الحياة التي تم إعدادهم لها، فيصبح العمل ممتعًا، وينمو الشعور بأنك تُقدم إضافة مهمة لهذا العالم الذي تعيشه، وهذا يعطيك معنى وهدفًا في الحياة.
ويرى روبنسون أن العثور على "العنصر" الخاص بك يمكن أن يكون مفتاح السعادة والرضا في الحياة، فضلًا عن النجاح بلا حدود، لكن كل هذا يتطلب أيضًا الفرصة لحدوث ذلك.
يعتبر كتاب كين روبنسون، من الكتب الأكثر إلهامًا وتأثيرًا في مجال تطوير الذات، لأنه يُساعدك على استكشاف قدراتك الداخلية والحقيقية، ويوفر بصيرة ثاقبة وحقيقية حول كيفية العثور على الهدف في الحياة وتحقيق النجاح الحقيقي، ربما لا يُقدم خطة واضحة ومحددة للوصول إلى "العنصر" الذي يلتقي فيه الشغف مع الموهبة، إلا أنه يوفر الأدوات اللازمة لفهم ذاتك وشغفك بشكل أعمق، ويُشاركك استكشاف طرق جديدة لتحقيق أحلامك وأهدافك.
وتتوافق الأفكار التي يتضمنها الكتاب مع نظرية حالة التدفق (Flow State)، كما وضعها عالم النفس والفيلسوف المجري ميهاي تشيكسنتميهاي، والتي تُعد أحد الأطروحات الأساسية في علم النفس الإيجابي. وهي تُحلل حالات التركيز العميق والانغماس الكامل في نشاط ما، بحيث تشعر أن الزمن قد توقف، وأن العالم قد تلاشى من حولك، لمجرد شعورك أنك تقوم بشيء تُحبه وتُجيده؟ وتصف نظرية "حالة التدفق" كما يُعرفها تشيكسنتميهاي بأنها "الحالة الأمثل للانغماس الذاتي في نشاط معين يحدث عندما تتزامن التحديات مع مهارات الفرد.
وذكر "تشيكسنتميهاي" عدة علامات تؤكد أن شخصًا ما وصل إلى تلك الحالة من التدفق ومن هذه العلامات، التركيز على العمل تركيزًا كليًا، عدم الشعور بالوقت والجهد، شعور بالسعادة، تصالح مع النفس والذات، نجاح لا محدود.
ويبقي السؤال الآن: من في هذا الزمن نجح في العثور على شغفه الخاص، وتمكن من أن يصل إلى عنصر تقاطع شغفه مع موهبته وقدراته، وعنصر تلاقي ما يحب مع ما يعمل؟ بالإجابة عن هذا السؤال سنكتشف أن بعضنا يعيش حياة ضحلة وباردة دون شغف كما وصفها أينشتاين في رسالته لابنه، لكن يجب أن نظل على يقين أن الضحالة الحقيقية هي اللحظة التي نفقد فيها إيماننا بأنفسنا، ويقيننا بالعثور على شغفنا في الحياة وإن تأخر.
كلمة أخيرة قالها عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين في رسالة لابنه:
"كنت أتمني أن أكتب إليك منذ وقت طويل، ولكن عملي يشغل وقتي كله، ومع ذلك فأنا أراه غير كافٍ، وهذا هو حال أمثالي من يتبعون شغفهم ويكون عملهم هو هوايتهم، وهذا كله بإرادتي، ودعني أخبرك بأن من دون هذا الشغف تصبح الحياة ضحلة وباردة، خاصةً حين يكبر الإنسان ويفقد حيوية الشباب ومتعته."
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات