أتذكر هذا المشهد رغم مرور ما يزيد على 30 سنة، عندما كنا نقف في الثالثة فجرًا ننتظر سيارة توزيع الأهرام، في اليوم الأول من كل شهر، وهو يوم صدور العدد الجديد من مجلة "الشباب" التي تصدر عن مؤسسة الأهرام، ولماذا كنا ننتظر فجرًا؟ لأننا في الصباح لن نجد عددًا واحدًا باقيًا من المجلة، فكانت الفرصة الوحيدة للحصول على نسخة، هو انتظار سيارة التوزيع، لنكون في مقدمة من يحصلون عليها، كنت شغوفًا جدًا بقراءتها مثل كل شباب الوطن العربي وقتها، لأنها تخطت حدود كونها مجلة مصرية، بل نجحت في أن تكون النافذة الأولى لكل الشباب العربي، والسر في ذلك إنها نجحت في فهم ما يتطلع إليه الشباب طبقًا لمتطلبات تلك الفترة، ما جعلها تلقى ما لم تلقاه مجلة أو منصة شبابية من إقبال ونجاح.
كانت مجلة الشباب أشبه بـ"مصباح علاء الدين" بالنسبة للشباب، فكانت تضم بين صفحاتها مسابقات في الأدب والثقافة والرياضة والسياسة والفنون والترفيه والعلوم والتكنولوجيا، لقاءات شبابية مفتوحة تجمع المشاهير بالشباب، رحلات شبابية تجمع قراء المجلة من كافة الأطياف والتوجهات والجنسيات في باب "أتوبيس الشباب"، دورات تدريبية وكورسات تعليمية مجانية، وظائف لخريجي الجامعات، تجارب ومغامرات صحفية، كل ما سبق كان يُغطي ويفوق احتياجاتنا كشباب في تلك الفترة.
فقد نجحت في أن تكون الأكثر قُربًا من الشباب، والأكثر فهمًا متطلباتهم، والأكثر حرصًا على مستقبلهم، والأكثر إدراكًا لدور وأهمية الشباب في صنع وبناء المستقبل، أذكر أنني شاركت في مسابقة لكتابة المقال، وكان عمري وقتها 15 عامًا، وحصلت على جائزة عبارة عن خمسة كتب لازلت أحتفظ بها، مع خطاب موُقع من الكاتب الكبير الراحل عبدالوهاب مُطاوع، رئيس التحرير، وكانت الجائزة الأهم بالنسبة لي هي نشر المقال في المجلة، وكان هذا بالنسبة لي في تلك الفترة، أشبه بحلم قد تحقق، وكانت البداية الحقيقية للشعور بأن مجلة الشباب، ليست مجرد مجلة، ولكنها وسيلة لتحقيق الأحلام، وبدأت أشارك في فعالياتها المختلفة، من ندوات ولقاءات مع مشاهير في الفن والرياضة والأدب والثقافة، والعلم وكافة المجالات، وكنا نجلس معهم لننهل من تجاربهم ونجاحاتهم في الحياة، وكانت المجلة تُسلط الضوء أيضًا على تجارب الشباب الناجحة في الوطن العربي والعالم، وليس فقط مصر، وكانت تلك التجارب بمثابة القصص المُلهمة، والمُحفزة لأي شاب للنجاح.
وأذكر "أتوبيس المفاجآت" الذي كان يقل الفائزين في المسابقات المختلفة، في رحلة مجهولة، وخط سير غير معروف، وفجأة يتوقف الأتوبيس ليستقله أحد نجوم الفن والرياضة القريبين من الشباب، وتتوالى المفاجآت خلال الرحلة.
الحديث عن مجلة الشباب وتأثيرها على أبناء جيلي من الشباب لا يُمكن اختزاله في مقال، لكن يكفي أنَّني، بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود، يُعيدني تفكيري إلى ذكرياتي مع المجلة وما يتخلَّلها من مشاعرٍ مُلهِمة. فهذا هو الأثر الحقيقي الذي تركته داخلي، في وقتٍ لا توجد فيه مجلةٌ، أو بلغةِ العصر، منصةٌ رقميةٌ عربيةٌ واحدةٌ تمتلك القدرةَ على لملمةِ شتاتِ الشباب العربي وإلهام لهم بالشكل الذي نجحت فيه مجلةُ الشباب، فقد نجحت في تشكيل حياتهم بشكلٍ لا يُمحى من الذاكرة.
يبلغ عدد الشباب العربي حاليًا نحو 128 مليون شاب في فئة الأعمار من 15 إلى 29 عامًا، ومع استمرار النمو الديموغرافي في المنطقة، من المتوقع أن يرتفع عددهم إلى 200 مليون شاب بحلول عام 2030، ولذلك، فإنَّ الاهتمام بتلك الفئة العمرية الحيوية يعد أمرًا ضروريًا، لأنهم يمثلون مستقبل ونواة التنمية الحقيقية، وكلما نجحنا في الاقتراب منهم، ولملمة شتاتهم، نجحنا في تحقيق تغيير حقيقي ومؤثر.
يجسد الشباب العربي المستقبل الحقيقي، بما يحملونه من شغف، طموح، إصرار، حماس، تطلع، رغبة، همة، أمل، إرادة، عزيمة، جرأة، إقدام، تفانٍ، وتحدي، ومع ذلك، لا يوجد منصة شبابية عربية واحدة تجمعهم وتُلبي متطلباتهم، وتُدرك ما يتطلعون إليه، وتقترب من أحلامهم وطموحاتهم، وتفهم ما يدور في عقولهم، وتمتلك أدوات التواصل والتفاعل معهم.
منصة شبابية تستطيع أن تُحول طاقاتهم إلى إنجازات، وأحلامهم إلى حقائق، وأفكارهم إلى ابتكارات، وتطلعاتهم إلى واقع مشرق، وشغفهم إلى إلهام، وطموحاتهم إلى أهداف، وهمتهم إلى عمل جاد، وإرادتهم إلى تحد وإبداع.
قد يكون هناك بعض التجارب الخجولة لمنصات عربية شبابية، لكنها لم تنجح في خلق هذا النوع من الولاء، الذي يجعلها جزءًا من تكوينهم، وشريكًا لهم في المستقبل، وداعمًا لإبداعاتهم، ولاء وانتماء يجعلهم يتذكرونها بعد ثلاثة عقود، مثلما تذكرت الآن مجلة "الشباب".
منصة تُقدم المحتوى الحقيقي الذي يتطلع إليه الشباب، وتواكب مستحدثات العصر من وسائل تواصل اجتماعي، واتصال، وذكاء اصطناعي، وتكنولوجيا، منصة تجعلهم أكثر قربًا من الواقع، وأكثر تأهلًا لمستقبل يتغير ويتطور لحظيًا، ومثلما قال العالم والمُفكر الدكتور مصطفى محمود "إن لم يشترك الشباب في صُنع الحياة، فهنالك آخرون سوف يُجبرونهم على الحياة التي يصنعونها".
كلمة أخيرة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان:
"حينما نتكلم مع الشباب، فيجب أن نتكلم باللغة التي يفهمونها، حتى نصل إلى عقولهم ووجدانهم، ويجب أن نتحاور معهم بروح العصر، ولا نتصور أن هذا الجيل نسخة طبق الأصل من أجيال سابقة، فكل جيل له سماته وطبيعته وتفكيره، وما كان مقبولًا في جيل الخمسينيات أصبح مرفوضًا في جيل الثمانينيات، ولابد أن نعترف بأن هناك أفكارًا متصارعة في أعماقهم، وواجبنا أن نفتح عيونهم على الخطأ والصواب، وأن تتسع صدورنا لآمال الشباب وطموحاتهم".
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات