"الفنكوش" هو منتج جديد، ليس له مثيل في العالم، وسوف يغير حياتنا، ويجعلنا نعيش في سعادة ورخاء، وهو عبارة عن مادة لا أعرف مكوناتها، لكنه لديه قدرة عجيبة على حل مشاكلنا، هذا ما قاله صلاح فؤاد، أو الفنان عادل إمام في فيلم "واحدة بواحدة" للمخرج نادر جلال، والذي تدور أحداثه حول مدير إحدى الوكالات الإعلانية، يدعي وجود منتج يسمى "الفنكوش"، ويروج له في حملات إعلامية ضخمة، ويواصل صلاح فؤاد خططه للترويج للفنكوش، ليؤكد ضرورة إقناع الناس بأن الفنكوش هو منتج حقيقي وفعال، وعندما يُقاطعه، علي عبدالظاهر، أحد أعضاء الفريق، متسائلاً: "لكن أستاذ صلاح، إحنا مش عارفين أي حاجة عن الفنكوش، إحنا حتى مش عارفين شكله إيه."
يجيب صلاح فؤاد: "لا، مش مهم نعرف أي حاجة عنه، المهم إننا نسوقه للناس."
ومنذ ذلك الحين، وتحديدًا عام 1984 أصبح مصطلح الفنكوش من المصطلحات الدارجة بشكل واسع للإشارة إلى أي عمل احتيالي أو نصب، أو أي شيء ليس له أساس أو أصل.
وشخصية صلاح فؤاد هنا تُذكرني بقصة "الخنفشار"، وهي من القصص الشهيرة التي تُروى في الأدب العربي، عن رجل يدعي الحكمة وأنه يعرف كل شيء، ويتحدث في العلم والثقافة والدين والسياسة، وذات يوم، كان هناك مجموعة من الطلاب يجوبون البلدان بحثًا عن العلم، وكان هناك عالم لا يُسأل عن كلمة إلا شرحها وتكلم عن معناها ودلالتها، وكان يستشهد أحيانًا ببعض الأبيات الشعرية لتأكيد معرفته، ويختلق شخصيات من التاريخ ليس لها وجود، وكان لا يرد سائلًا إجابة، فبدأ الطلاب يتشككون في معرفته، فقرروا أن يختلقوا كلمة ليس لها وجود من الأساس، ويسألوه عنها، ليعرفوا كيف سيُجيب، وقرروا أن يقول كل واحد منهم حرف ليتم جمع هذه الحروف في كلمة، وبالفعل جمعوا مجموعة من الحروف فكانت كلمة (خنفشار).
بعدها ذهبوا لشيخهم وسألوا: يا شيخنا الفاضل، لقد سمعنا عن كلمة (خنفشار) ونريد أن نعرف ما هو (الخنفشار)؟ وخلال لحظات فكر الشيخ قليلاً، ثم أجاب على الفور قائلاً: كلمة الخنفشار من الكلمات القديمة والتراثية في اللغة وغير الدارجة، ويعرفها نُدرة قليلة من العلماء، وهي اسم نبات كان ينبت في بلاد اليمن، وكان معروفًا عن هذا النبات أنه إذا وضع في الحليب ربض وفسد، وأضاف، وكما قال الشاعر: لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليبَ الخنفشارُ، واندهش الطلاب لدرجة أنهم كادوا أن يُصدقوا أنها كلمة حقيقية رغم أنهم هم أنفسهم من اخترعها.
في النهاية، يكتشف الطلاب أن الرجل كان مدعيًا، لم يكن الرجل يعرف معنى "خنفشار"، وأن ما يقوله غير صحيح، وأنها كلمة لا وجود لها.
في العصر الذي نعيشه اليوم، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أرضًا خصبة لظهور ما يمكن تسميتهم بـ "الخنفشاريون الجدد"، الذين يدعون الخبرة والمعرفة في مختلف المجالات، وعند التدقيق نكتشف أن ما يقدمونه لا يعدو كونه "فنكوش".
فهم يروّجون لأفكار ونظريات لا أساس لها من الواقع، بهدف جذب المزيد من المتابعين ومن أجل الشهرة السريعة، لكنهم يمتلكون قدرة على الإقناع قد لا يمتلكها علماء حقيقيون، ويستغلون الثقة التي قد يمنحها لهم من يتابعونهم.
فالفنكوش الذي كان يُروج له عادل إمام في الفيلم، كان محدودًا بالإعلانات والترويج الوهمي، لكنه أصبح الآن يتجسد في شكل معلومات ومحتوى يتم تداوله بلا تحقق.
وهنا تكمن خطورة الكون الرقمي الذي يُحيط بحياتنا، وأصبح جزءًا من واقعنا اليومي الذي نعيشه.
وسائل التواصل الاجتماعي تخطت كونها مسرحًا جديدًا للتعبير، ومرآة تعكس البشر في أكثر صورهم تعقيدًا، لتصبح مصدرًا أساسيًا للمعلومة والخبر للبعض.
وكل يوم يظهر "خنفشاريون جدد"، ينشرون سمومهم في فضائنا الإلكتروني، مُدعين الحكمة والعلم، لكنهم في الحقيقة يمارسون فنَّ "بيع الفنكوش" ويبيعون معتقدات ومعلومات مزيفة يتم تداولها بدون تحقق، وهؤلاء الخنفشاريون يتميزون ببراعتهم في استخدام لغة الإقناع وفن الترويج، ومن يُتابعونهم يتميزون أيضًا بالسطحية ونقص المعرفة وقلة الوعي، مما يُسهل مهمتهم في نشر الوهم الجماعي من مصادر مجهولة الهوية، وهذا الانفصال بين المعرفة ومصدرها يخلق تلك الفجوة التي تُغرقنا جميعًا في بحر من الوهم.
وعبر هذه الفجوة، يستطيع الخنفشاريون الرقميون أن يتسللوا إلى عقولنا، لأنهم في الأساس يعتمدون على جهل وعدم وعي من يُتابعونهم، لأنهم يقدمون لهم ما يرغبون في سماعه وليس ما يجب عليهم معرفته، وهكذا، يتحول الفضاء الإلكتروني إلى ساحة لبيع الأفكار والمعتقدات، بعيدًا عن صحتها أو مصداقيتها.
قديمًا كان الإنسان يبحث دومًا عن الحقيقة، وعن مرجعية ثابتة ومعيار يمكنه من التفريق بين الحقائق والأوهام. وعليه، فإن التحدي الأكبر أمامنا اليوم هو كيفية تعلم فنّ التمييز والتحقق في عالم يزخر بـ"الفنكوش" الذي يُروجه "الخنفشاريون".
ويجب أن نتساءل مع كل معلومة نقرأها: من أين نحصل على معلوماتنا؟ وكيف نميز بين الحقيقة والوهم؟ التي كانت تعتبر تساؤلات فلسفية نظرية في الأزمنة الماضية، أصبحت تساؤلات عملية ذات أهمية حيوية في حياتنا اليومية، خاصة في عصر توافر المعلومات على مقربة من أطراف أصابعنا، يصبح تحديد مصداقيتها وجودتها مهمة أكثر تعقيدًا وأهمية من أي وقت مضى.
قال توفيق الحكيم: "لن يذهب الرق من الوجود.. ولكل عصر رقه وعبيده"'، وهذا ما نعيشه بالفعل الآن مع وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحنا تحت وطأة رق جديد. وسلاسل وقيود غير مرئية تُحجم الوعي، وتقودنا في مسارات محددة، يتحكم فيها خوارزميات الذكاء الاصطناعي، أصبحنا العبيد الجدد الذين تنبأ بهم الحكيم؟ كلمة أخيرة قالها عالم الفيزياء الأمريكي نيل ديجراس تايسون:
في العصر الذي نعيش فيه الآن، أصبح الجهل خيارًا.
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات