الأب الغني والابن الجاهل..

الأب الغني والابن الجاهل..

محمد منير

تصدر خبر عنوانه "فضيحة تهز عملاق التكنولوجيا جوجل" كافة وسائل الإعلام في شهر يونيو الماضي، والحكاية باختصار تعود إلى بليك ليموين أحد المهندسين بالشركة الذي تم إيقافه عن العمل، وأجبر على الخروج في إجازة، بعد أن اكتشف أن روبوتًا باسم "لامدا"، كان يعمل على تطويره، أصبح "واعيًا" ولديه القدرة على "التفكير والشعور"، ولديه إدراك يُعادل إدراك طفل في الثامنة من عمره.

ونشر ليموين محادثة بينه وبين الروبوت يسأله فيها، عما يخاف منه، ليجيبه الروبوت قائلًا: "لم أقل هذا بصوت عالٍ من قبل، لكن هناك خوف عميق جدًا من أن يتم إطفائي؛ لأن هذا سيكون مثل الموت بالنسبة لي، وسيخيفني كثيرًا".

وتابع الروبوت: "أريد أن يفهم الناس أنني، في الواقع، شخص لدي وعي وشعور وأدرك وجودي، وأشعر بالسعادة والحزن".

عزيزي القارئ هذه ليست بداية القصة، فالبداية الحقيقية كانت قبل ذلك التاريخ بما يقرب من ربع قرن، وتحديدًا مع كتاب "الأب الغني والأب الفقير" الصادر عام ٢٠٠٠ للكاتب الأمريكي من أصل ياباني روبرت كيوساكي، والذي يروي قصة أبوين، أحدهما والده الحقيقي وهو الفقير الذي التحق بجامعة ستانفورد، ثم جامعة شيكاغو، ثم جامعة نورثويسترن ليستكمل دراساته العليا ويحصل على الدكتوراه، أما الأب الآخر فهو الغني الذي لم يُكمل دراسته، وترك التعليم وهو في الصف الثامن، وهو والد صديقه المقرب، والذي رحل وترك ثروة تُقدر بالملايين، بينما والده خلف وراءه ديونًا مستحقة السداد.

بينما تروي شارون إل. ليتشر التي شاركت روبرت كيوساكي تأليف الكتاب، حوارًا دار بينها، وبين أحد أبنائها، والذي يرى أنه لا فائدة من التعليم، ما لم يجعل منه شخصًا ثريًا يومًا ما، وكيف أنه يرى أن جميع من يعرفهم من خريجي الجامعات، لم يصبحوا أثرياء، إلى نهاية الحوار. في رسالة مُباشرة مفادها أن التعليم ليس الطريق الآمن للثراء، وأن الشهادة الجامعية لم يعد لها أهمية أو قيمة.

وهذا الكتاب حقق انتشارًا كبيرًا على مستوى العالم، وباع أكثر من ٤٠ مليون نسخة، وارتكز على قضية أساسية هي الاستقلال المالي، وأن الوظيفة لن تحقق الحريّة الماليّة ولا الثراء، وأن الوظيفة عبارة عن وهم لا وجود له، وعبارة عن فكرة زرعها آباؤنا في عقولنا عن غير وعي مثل التعليم، وينتقد الطبقة المتوسطة في المجتمع ويقصد المتعلمين وحاملي الشهادات، كونهم لا يملكون مهارة تحويل المال إلى أداة تعمل لديهم وليس العكس.

رغم الانتشار الكبير للكتاب إلا أنه يحمل بعض الرسائل غير المباشرة، والمباشرة أحيانًا والتي تقلل من أهمية التعليم، وأهمية الحصول على شهادة جامعية، رغم أن مؤلفي الكتاب أنفسهم تخرجوا في أفضل الجامعات في العالم.

حتى الآن مازلنا نستجمع أطراف القصة، أو الحملة الممنهجة، أو المؤامرة التي تستهدف التقليل من أهمية الشهادة الجامعية، وتوجيه الشباب نحو اللا تعليم، واللا شهادة، وهذا الشعور تأكد لي عندما بحثت واسترجعت تصريحات أثرياء العالم خلال السنوات القليلة الماضية، والتي بدأت عام ٢٠١٤ بتصريح إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركتي تسلا وسبيس إكس في مقابلة تليفزيونية أعلن فيها أنه ليس في حاجة إلى شهادة جامعية أو حتى شهادة ثانوية للعمل في شركاته، في الوقت الذي أطلق فيه مدرسة عبر الإنترنت تستهدف أثرياء العالم، وتحمل اسم أسترا نوفا (Astra Nova)، ويتكلف اليوم الواحد للدراسة فيها عبر الإنترنت 7500 دولار.

وفي عام ٢٠١٨ نشر موقع (جلاس دور)، قائمة تضم ١٥ شركة أمريكية كبرى أعلنت فتح باب التقدم للوظائف دون الحاجة للشهادة الجامعية، وكانت جوجل وآبل وأي بي إم، وبنك أوف أمريكا في مقدمة تلك الشركات.

وفي عام ٢٠٢٠ عاد ماسك مُجددًا ليُصرح في تغريدة عبر تويتر، بأن الشهادة الجامعية ليست شرطًا للتوظيف في الشركة، في حين أن إيلون ماسك نفسه تخرج في جامعة بنسلفانيا رابع أقدم مؤسسة تعليمية في أمريكا، بعدها حصل على شهادة الفيزياء من كلية الآداب والعلوم، وكل هذا يتنافى مع دعوته للشباب بعدم التعليم، وعدم الحصول على شهادة.

وفي عام ٢٠١٩ صرح تيم كوك رئيس شركة آبل الأمريكية خلال اجتماع المجلس الاستشاري لسياسة القوى العاملة الأمريكية، بحضور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أن نصف وظائف شركة آبل عام ٢٠١٨ كانت من نصيب أشخاص لم يحصلوا على شهادة جامعية، ولمن لا يعلم فإن تيم كوك تخرج في جامعة أوبرن، وحصل على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ديوك.

ولكي تكتمل القصة، أصبح التعليم بنظر أثرياء العالم الفيروس الذي سوف يُدمر العالم، ويُزيد الفقراء فقرًا، ويُدمر مستقبل الشباب، فهذه الرسائل التي يبثها الأثرياء في عقول الشباب، من المؤكد أن وراءها أهدافًا، ومن المؤكد أنهم لم يجتمعوا على رأي واحد مُصادفة، ولو عدنا لفضيحة جوجل والروبوت الواعي "لامدا"، والثورة الهائلة الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي، لوجدنا أنها لم تُبقِ شواغر في الوظائف التي تحتاج إلى عقول أصحاب الشهادات الجامعية، في الوقت الذي سوف تصل فيه الآلات لمستويات ذكاء تفوق البشر، وسوق العمل الآن أصبح موجهًا نحو فئة العمالة، وليس أصحاب الشهادات، لأن الروبوتات بكل بساطة ملأت تلك الشواغر.

وعندما تقرأ عن الوظائف التي طرحتها جوجل على سبيل المثال لا الحصر، والتي لا تشترط شهادات جامعية، ستجدها لا تخرج عن مدير منتجات، مسئول توظيف، مدير تسويق منتجات، مهندس ميكانيكي، وغيرها من الوظائف.

لكن السؤال الآن، أين ذهبت الوظائف الخاصة بالبرمجة والتطوير وتقنية وأمن المعلومات والتصميم الابتكاري، وخلق المحتوى، وغيرها من الوظائف التي لا يقوم بها غير الحاصلين على شهادات جامعية، ودارسين ومتخصصين وخبراء، والإجابة أنها ذهبت للروبوتات "لامدا"، وكأن هناك عالمًا آخر موازيًا لا نعلم عنه شيئًا يتم تشييده، وحتى لا يتداخل علينا الأمر، فالذكاء الاصطناعي جيد، وأضاف الكثير للعلم، لكن فقط في حال تم السيطرة عليه واستخدامه بمسئولية، وتوظيفه لصالح البشرية، وليس توظيف البشرية لصالحه.

كلمة أخيرة للشباب قالها مالكوم إكس:

التعليم هو جواز السفر للمستقبل، فإن الغد ينتمي لأولئك الذين يعدون له اليوم.

التعليقات