كانت الوحدة التي طالما شعرت بها، وهي الونس الدائم لي، والملجأ الأساسي لأفكاري المضطربة أحيانًا. كثيراً ما رأيت الأماكن الممتلئة فارغة رغم الازدحام والمواعيد، وبرغم المقابلات العديدة، إلا أنني لم ألتقِ أحدًا قط. إن الذي بيني وبين الجميع حائلٌ ضخم كضخامة وحش بغيض، رث الهيئة. كأنني هناك بالجزء الأقصى للعالم، رغم أنني هنا بكيان واضح المعالم. كل الوضوح يتمثل بحديثي، رغم صمتي المميت.
عزيزتي الجميلة، هل تقبلين لقائي بخيالٍ بنيته فقط من أجلكِ؟ أتقبلينني رغم عيوبي وشحوبة وجهي الدائمة؟ إن قبلتِ، فأعلمي أنكِ ستكونين على موعد معي دونما أن تريني. أنا فقط بخيالكِ، كما كنتِ دوماً بخيالي. إنكِ الظلام والنور في آن واحد. أذكر الظلام حين أتذكر أنكِ ترفضينني. الرفض بالنسبة لشخص مثلي هو منتهى التعاسة.
كانت عواطفي الجياشة دائماً ما تدور حولكِ. أنتِ صعبة المنال، لكنكِ بمخططاتي وتفكيري البعيد، رغم علمي أنكِ لستِ بعالمي. على كل حال، سأتعامل بطريقة قانون الجذب وأعتقد أنني سأنجح في ذلك. سأبدأ وربما أنجح. أعتقد أنني سأنجح.
أولى خطواتي هي تمارين اليوجا، التنفس بعمق مع زفير يخرج معه كل طاقاتي السلبية، ثم التأمل والخيال بأعمق صوره. لابد أنني سأنجح...
ها هو الطموح المنعزل "بسام". هو لا يملك سوى البسمة الصامتة، مثل صمته، أو بشكلٍ أدق، صممه وبكمه الخلقي الذي لا يد له فيه. إنه ملازم له منذ ولادته، فهو "من أصحاب الهمم". أولئك الأبطال المغلفون بالمرح، لكنك إن بحثت داخلهم، تجد البؤس جله.
عادت حبيبته بعد سنوات الغربة مع أهلها. لم يقدر أبداً على مصارحتها بمشاعره نحوها، فلو علمت بظروفه، ربما ترفضه. لن يكون عبئاً عليها، هذا ما يفكر به، خاصة بعد أن رأها بالمتجر ممسكة بيد فتاة صغيرة تشبهها كثيرًا. يبدو أنها تزوجت بالخارج ولكنها صغيرة بالسن حتى تنجب فتاة في مثل عمر فتاتها الجميلة التي تلاحقها. إنها رقيقة وجميلة مثلها.
على أية حال، انكسر قلب بسام إلى الأبد. كيف سيبقى على حب فتاة تزوجت وأنجبت؟ لن تنظر إليه مطلقاً...
الفتاة الصغيرة تلتفت إلى حبيبته: "أبلة".
بسام يتحدث إلى نفسه بذهول: كيف؟! كيف لفتاة صغيرة أن تنادي لوالدتها ب "أبلة"؟ لابد أنها أخطأت التعبير!!
وإن العجب الأكبر حينما بدأت بحديث الإشارة مع صاحب المتجر الذي لم يفهم شيئًا من حديثها الصامت الذي يبدو من روعته الحديث الممتع بالنسبة لـ "بسام".
الفتاة الصغيرة لصاحب المتجر: "أختي تريد معرفة حساب المشتروات يا عمو...".
"بسام" بفرحة عارمة: "الطفلة تقول أختي!!!"
إنها أيضًا من أصحاب الهمم! تلك المصادفة العجيبة التي تأتي فقط لشخص قد يكون قضى أعوامًا لم يكن الحظ حليفه دائمًا. إن رحمة ربك وسعت كل شيء. يالك من محظوظ يا "بسام"! إنها الأخرى ترنو إليه بإعجاب، تتمنى لو يلحظها وهي تهمس في نفسها مبتسمة: "هيا، أقبل... لا تتردد... أعرفك تمام المعرفة".
دنا منها بابتسامة مشرقة، وكتب لها على ورقة بيضاء أعطاها له صاحب المتجر:
"أعتقد أن قسوة الأيام والسنوات المارة كشريط ذكريات لم يحنو أبدًا، لم يكن بقسوة غيابك... أتقبلين أن تتزوجيني؟"
أومأت برأسها في قبول، وكتبت:
"أعرفك منذ زمن وانتظرتك طويلًا... أجل، أوافق."
التعليقات