التضاد والأختلاف من سمات الكون، فكلما زادت الفجوة بين نقيضين أو أمرين مختلفين أتضحت الرؤية للمشاهد البعيد الذي يرصد ذلك الاختلاف ، وكلما كنت عزيزي القارئ في وضع المشاهدة البعيدة للنقائض التي حولك بمعطياتها، أدركت تمام الإدراك أن الاختلاف نعمة والتضاد وسيلة لفهم الآخرإذا أردت ذلك.
ولكن كيف يكون الوضع إذا كان كل طرف لايرى الآخر إلا من زاويته هو ، بل يصل الأمر الى أبعد من ذلك معتبراً أن الأختلاف عن معتقداته وأفكاره وعقائده ماهي إلا وسيلة لتدميره والقضاء عليه وبذلك يخلق حاجزا وهمياً يتقوقع فيه مدركاً أن من يخالفه من عالم أو كوكب آخر.
تتحدث الرواية عن مفهوم التضاد بالمعنى الشامل لها من خلال بطلها وهو رجل عادي أدرك التصوف في مرحلة لاحقة من حياته ، فكانت الموسيقى غذاءً لروحه مطلقة الحقيقية من لسانه قبل عقله ،ساوره الشك فترة فأدرك أن في الشك نعمة للوصول إلى الحقيقة ، وتسلل إلى عقله نعمة ما بعدها نعمة ، الأ وهي نعمة التضاد ، فلو كان الكون بلا أختلاف بين حق وباطل ونور وظلمة وشك وحقيقة وحديث وقديم لما أستحق أن يحصل على هذا اللقب ، لقب الكون الذي تتجلى روحه في أختلافه. تحكي الرواية عن مكان ما محدد وهى وكالة الموصلي ، فهي بقعة جغرافية للوصول إن جاز أن نستخدم هذا التعبير مجازا للوصول الى حقيقتها ، وهي على أتصال دائم بالسماء ،هكذا تحدث عنها الشيخ ذاكر رسلان قائلاً " لكل مكان روح تتشكل ،حسبما يطرأ عليه من أحوال، هذه الجدران لم تشهد نزاعاً قط ، لم تسمع جدالاً لمئات السنين ، لم ترق دماء فوق هذه البقعة ولم يمر بها فاسق ، حتى المساجد يدنسها لصوص الأحذية ، أما هنا فى هذه الوكالة فالله خير حافظا".
تبدأ أحداث الرواية فى حفل تنصيب الشاب الشيخ يوسف شيخا للطريقة الموصلية خلفا للشيخ ذاكر رسلان ، حيث يدرس الأول تاريخ الموسيقى وينقب قيما بعد في الاسفار عن كلمة تذكر شيخهم الموصلي هذا، ولاتعتقد عزيزي القارئ أن هناك خلافا أو جدلا بين أن تكون صوفيا مع كامل أستمتاعك بالموسيقى ، فليست بمحرمة ولكن للمتصوفين دائما قولاً آخر فلم تكن الموسيقى عندهم وهم أتباع الطريقة الموصلية مقصورة على حفل التنصيب بل قالو عنها " التمرين وسيلة من وسائل العبادة ، تذكر ذلك جيدا كلما أمسكت العود".
شخصية محورية أخرى بين ثنايا الرواية " زينة الديناري" أبنة ذاكر رسلان نفسه ، حيث تمثل محور الحداثة والتطوير والتجديد محاربة بعقلها وفكرها كل جنود التخلف والخرافة ، وتضع بآرائها وتساؤلاتها خطا فاصلا بين الحقيقة والخيال وتضع أفكارنا على المحك وتشككنا فيها حتى نتوه بين الحقيقة والباطل ، ولكن كلما أفرطنا في استخدام عقولنا لنفكر بحيادية زالت الغمامة.
تنتهي الرواية بمشهد غير مألوف لأحداث الرواية ، حيث تحترق وكالة الموصلي ، فلم يكن لها حارس أو حامي فقد أسنتجابت للنار الموقدة التي هبت بها ، أحترقت الوكالة بافكارها ومعتقداتها ،وأنتصر العقل فلو بنيت وكالة الموصلي على ضرورة الايمان بالتضاد والاختلاف لما أحترقت.
الرواية صوفية كوسيلة مضمونة للهروب من هذا الخراب الروحي الذي يعيش فيه عالمنا الآن.
التعليقات