فى وقت نتغنى فيه ليل نهار بدور الفن كقوة ناعمة ،تنتج الدراما المصرية مسلسل مرتفع التكلفة "جعفر العمدة". يعود به المخرج محمد سامى الى سابق عهده بالدراما، بتقديم عمل من تأليفه وأخراجه. طارحا تلك التوليفة المعتادة له من شخصيات كرتونية غير موجودة سوى بين جنبات أفكاره، وسلسلة متواصلة من أعمال البلطجة واستعراض القوة والفتونة ،مع أستخدام أضاءة مبهرة فى غير موضعها ؛وديكور مقولب يصلح للحواديت.
ومع اصرار محمد سامى على أن يكون مؤلفا رغم أن ماقدمه حتى الأن يؤكد أنه لا يملك مقومات مسكة القلم فقط ،فلا مانع أذن من الاستعانة بأفكار وأحداث سبق تناولها فى أعمال أخرى، وبقليل من البهارات تصبح وجبة درامية سابق التجهيز. يتناولها المشاهد الذى تم تربيته خلال الاعوام الماضية بمثل تلك الاعمال ،التى بالطبع لها جمهورها، الذى يتأثر بكل مابها من قيم واخلاقيات متدنية ومزيفة ،والسبب عودة سطوة "محمد سامى "من جديد؛ والذى يرى ان عبقريته تتجاوز الاخراج بكل مابه من نقاط ضعف الى التأليف أيضا ، كل هذا كان مقبولا فى فترات سابقة، ولكن الان ونحن أمام محاولات جادة لسحب البساط من الدرما المصرية بشكل ممنهج ومدروس ،يصبح تقديم نوعية مثل "جعفر العمدة"جريمة.، يجب محاسبة من قدمها ؛ أو على الأقل توقفوا عن ترديد مقولات أستخدام القوة الناعمة للفن .
شخصية جعفر العمدة القادمة من كوكب محمد سامى الابداعى، الملئ بالحمم والبراكين الابداعية التى تنفجر يوميا فى احداث مسلسله؛ الذى لايخلو يوما من عاركة وخناقة، ينتصر فيها البطل الهمام محمد رمضان.
بعيدا عن حى السيدة زينب الخيالى الموجود المسلسل ،والذى يؤكد أن مخرجه لا يعرف شيئا عن السيدة زينب ولاحتى آى حى شعبى فى مصر ،ولكن هو كارت بوستال للمخرج لحى مقولب لايمت للواقع بصلة، بداية من مساكنه ومحلاته وأنتهاءا بالشخصيات التى تعيش فيه ضمن احداث مسلسله الوهمى .
ويبدو أن محمد سامى متأثر بشكل سطحى بالفتونة التى قدمها نجيب محفوظ فى "الحرافيش" وشخصية " السيد عبد الجواد" فى الثلاثية وخاصة فى علاقة جعفر العمدة بالراقصة المعتزلة ، وكباريها المزعوم ، وهو كباريه غريب من الصعب أن تجد مثيله سوى فى مخيلة المخرج. زبائنه كومبارس صامت يتفرجون على الراقصة البدينة وهى تغنى ،ولأضافة جو الكباريه فلا مانع من أضاءة خافتة حمراء ،ونعمة الأبداع والأبتكار.
شخيصة "جعفر العمدة" التى البسها رداء ممزق من فهم قاصر لمحمد سامى لما قدمه نجيب محفوظ للفتونة يؤكد أنه حتى عندما اقتبس فكرة الفتونة، اقترب من قشور الشخصية، واعطاها من افكاره التى تفتقر الى الابتكار والأبداع . وساعده على أظهار هذا الغثاء اداء محمد رمضان نفسه ؛الذى ظن أن الفتونة والمعلمة شنب، فتحة صدر ، وماشية الخيلاء التى لاتليق على تكوينه الجسمانى وتلوين صوته بدرجة جعلت مخارج الفاظه غير مفهومة ،وهذا يدل على أن محمد رمضان كما هو معتاد لايستطيع المخرج السيطرة عليه ،ويفعل مايريد.
والسؤال الذى تملكنى وانا اشاهد بروباجندا الاحكام العرفية التى يقوم بها بين اهل السيدة زينب ، وطقوس العباية وتقبيل المصحف ودباجة قراءة الفاتحة والصلى على النبى ،كيف يتسق ذلك مع شخصية مرابى يقرض الناس بالربا!. وبذلك يصبح نموذج محمد سامى للفتوة مختلف تماما عن تعريفه بكونه المستبد العادل الذي يسعى لتطبيق القانون القوة والحق حسب معادلاته الخاصة ،والذى يلعب دور الحكيم ويرتب الحياة في الحارة التي يحكمها بحيث يظل الجميع قانعين به ومدينين لحمايته ؛ ولذلك كانت حكايات التحكيم والتى قام بها محمد رمضان، أخذ بعضها من المأثورت ، مثل موضوع الكلاب التى ستتعرف على من عاش معها. وبالطبع تلك الحكايات وسيلة مضمونة للحشو واستهلاك الوقت فى حواديت جانبية ،ليس لها آى اضافة درامية.
وجعفر العمدة "هرقليزى" التكوين والتصرفات. متزوج من أربعة يتعامل معهن بنظام الجوارى ؛ورغم أن تلك التفصيلة قدمت من قبل فى أكثر من عمل أشهرها الحاج متولى والزوجة الرابعة وكلاهما أعترضت عليهما المجلس القومى للمرأة ،ولكن بالطبع لن يتحرك المجلس الان !!!.
وأما بالنسبة للحكايات الجانبية فحدث ولاحرج، كلها تصب لصالح ظهور عبقرية جعفر العمدة، وتدور حوله ،ولامانع من أن يكون أحداها قصة ابنه المخطوف، والذى عرف المشاهد من اول مشهد أنه الشاب صديق بنت الراقصة ؛التى هى فى حد ذاتها شخصية هلامية لامعنى لوجوده من الأصل.
تظل شخصيات محمد سامى هوائية بلا جذور فى كل اعماله، حتى بطله الرئيسى بنائه الدرامى يفتقر الى العقل والمنطق . ورغم أن كلام الإنسان تعبير واضح لكوامنه الداخلية وثقافته فكره ومكانته الاجتماعية، وكل مشاعره وأحاسيسه من أفعاله وردود أفعال مقترنة بالواقع والأحداث، إلا أن ماحدث أن محمد سامى سخر كل التقنيات بشكل مبالغ فيه لصالح البطل فأصبحت الشخصيات كارتونية يحركها جعفر العمدة كيفما شاء.
وأخيرا جعفر العمدة سينضم بكل البروباجند المفتعلة الى قائمة الاعمال الاكثر مشاهدة؛ لتظل القوة الناعمة مجرد حبر على ورق .
التعليقات