كثير ما نختلف حول حقيقة دول عصور مصر المختلفة، وهذا بسبب دراستنا الأولية للتاريخ فدرسنا الدولة الفاطمية، الدولة الأيوبية، دولة المماليك، الدولة العثمانية، ومصر إبان كل مرحلة منهم، مع عدم لفت النظر إلى الفرق بين دولة أنشئت على أرض مصر، ودولة جاءت لتضم مصر إليها، الأولى تريد النهوض بها ومعها، والثانية تريد نهب خيراتها وسرقة شعبها لرفاهية شعبها الأصلي.
قامت دولة المماليك في الأساس لغرض صد أي عدوان خارجي عن مصر، أو أن هذا المبرر كان طريقها للوصول إلى الحكم، استمرت في نظام حكمها على تطبيق أصول وقواعد الدولة الأيوبية فكانت أول طريقة للفوز بحب وطمأنينة المصريين، ولأنهم كانوا فرسان أقوياء لا مثيل لهم استطاعوا كسب ثقة الشعب بأنهم أمانهم وحمايتهم فانتشرت هيمنتهم على البلاد وجرى ما جرى.
وكأي دولة أخرى مرت بعصر اضمحلال مثلما كان لديها عصر ازدهار في البداية؛ بدأ عصر الاضمحلال بالظلم وفرض الضرائب الباهظة على الشعب واحتكار بعض السلع ورفع الأسعار، وهذا بعد أن ظهر إلى العالم أسلحة متقدمة للحرب مثل البارود والأسلحة النارية فرفض المماليك دخولها إلى البلاد لظنهم أن بها سيستغنى المصريون عنهم؛ لأن ما يبقيهم إلى الآن كأسياد هو تفوقهم العسكري في الفروسية القديمة، فقالوا سنحارب مثلما حارب المسلمون الأوائل حاملين السيوف فوق أظهر الأحصنة، أي فضلوا التخلف عسكريا عن العالم حولهم عن خسارة استقرارهم كملوك وسلاطين على البلاد.
فجاء الجيش العثماني بقيادة السلطان سليم الأول ليواجههم في معركتي مرج دابق في الشام والريدانية في مصر واستطاع أن يأخذ كلاهما من يد المماليك، لتبدأ مصر في رحلتها المأساوية الجديدة تحت الاحتلال العثماني.
لسنوات طوال استمرت إلى منتصف القرن الماضي ظل ملف الاحتلال العثماني مغلقا محرم على الجميع النظر به، فكانت هناك حقيقة واحدة مُسلم بها " انتهت دولة المماليك وصارت الهزيمة بسبب خيانة بعض أمراء المماليك أمثال خاير بك والغزالي وبسبب تقدم العثمانيين عسكريا في استخدام البارود والأسلحة النارية أي أنه لا ذنب ولا خطأ لسلاطين المماليك."
وتم حصر تاريخ الدولة العثمانية في أنها كانت السبب في تخلفنا بوضعنا على الرف لأكثر من ثلاثة قرون، أي عندما كان يصنع الغرب حضارتهم كانت حضارتنا تُسلب منا، ثلاثة قرون من الجهل والفقر والأوبئة، ثلاثة قرون من منع خروج أي عقلية فذة إلى النور أو السماح لها بالسيطرة على عقول المصريين، مع تصدير كل فنان وموهوب للمساعدة في بناء حضارتهم ومجدهم فكان لهم النور والصلاح وكان لنا الخراب.
لم يسمح العثمانيون لأحد أن يكون واليا على مصر لأكثر من عامين لأنهم كانوا الأعلم بصعوبة حكم مصر وكبت الرغبة في السيطرة عليها فما من أحد شاهدها إلا وطمع في أن تصبح ملكه.
إلى أن جاء محمد علي باشا والذي تمت مبايعته واليا على مصر بعد خورشيد باشا، والذي قرر ألا يصبح مجرد واليا على دولة تابعة إلى دولة؛ لأنه وجد دولة قادرة بخيراتها ومصادرها وشعبها بأن تصبح امبراطورية كبرى تنافس على القمة، فشرع في تطبيق فكرته حيث لقب نفسه واستمر اللقب من بعده "مؤسس مصر الحديثة"، استطاع في عهده الذي استمر لأكثر من أربعين عاما النهوض بمصر مرة أخرى، استطاع إحياء إيمان المصريين وشعورهم بأحقيتهم في خير بلدهم مع استمرار التبعية العثمانية حتى مع الاحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨١، إلى أن استطاعت بريطانيا التخلص من العثمانيين بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.
لتنتهي بذلك الدولة العثمانية من مصر وكنا نظن أنها لن تنتهي، مع بحث العديد من المستشرقين الأجانب أكثر من العرب في تاريخ مصر إبان الاحتلال العثماني، لم يستطع أحد إلى الآن خوض التجربة بصدق، لم يتمكن أحد من وصف ما حدث خلال ثلاثة قرون كاملة، فكل ما يقال عنها أنها كانت فترة سوداوية على مصر ولكن ومع ذلك فهي ليست بفترة قصيرة يمكن التغافل عنها وإن كانت هى حقا سوداوية إلى ذلك الحد فهذا يدفعنا أكثر إلى الخوض فيها ودراستها لمعرفة الحقيقة.
فما حدث بمصر خلال ثلاثة قرون من الاحتلال العثماني يستحق ويتطلب فتح ملفها من جديد وإعادة النظر فيه.
التعليقات