كما أن البصمات تختلف من شخصٍ إلى آخر كذلك هي الأمزجة والأهواء والشعور والعواطف والأحاسيس، بمعنى إذا شعر فردٌ ما بأنه يستمتع برؤية فراشات الربيع تتقاطر نحوالمروج الفتية حينما يهلُ الربيع فيشكل هذا المنظر له مخزونا لطيفاً يجعلهُ يعتدل بالمزاج ويرتقي بشوائب النفس، هذا لا يعني بأن هذا الشيء قد ينطبق على أخيه مثلاً، فلربما يكون العكس.
إذا هي أمزجة مختلفة لا تنطبق على الجميع فلا يمكن أن يسن لها قانون كأن يتم فرض حبِ الفراشات على الجميع، ولكن قد يسنُ قانون يدعولإحترام الفراشات وعدم افنائها وهذا الشيئ يسري على من يحبها ومن لا يحبها، من يحب فصل الربيع ومن لا يحبه.
هذا ينطبق على الإنتماء تماماً، أمامنا الآن شخصان صديقان أسمائهما لا تهم لكن نشير لهما بكلمتين (الأول والثاني)، هما صديقين حميمين، استطاعا الهرب من أتون حربٍ عصفت ببلادهما قضت على الأحلام والأماني والرؤى، دمرت الحجر وأتت على جموع البشر، أكلت بأتونها كل شيء فلم توفر جماداً ولا إنساناً ولا نباتا، كانت حرباً مستعره بغيضة مؤلمة شائكة بأشواكها المدببه والتي طعنت كل شيء حتى بطون وظهور الأطفال والعصافير.
من كل هذا وذاك استطاع الصديقين الهرب من هذه الحرب وبرحلةِ عذابٍ بين الأدغال وعباب البحار وغضب الطبيعة وقساوة الإنسان استطاعا الوصول أخيراً لملاذٍ آمن ... بلدٍ ما قدم لهما الإيواء وأعطاهما الأمان - ولوأنه نسبي نوعاً ما - ولكنهما فرا من حربٍ لولاذَ بها المرء لسقر لكان قد انتصر.
مع توالي الأيام انخرط هذان الشابان في المجتمع الجديد، احترما قوانينه رغم أن هذا المجتمع يختلفُ كلياً عن المكان الذي أتيا منه مع ذلك تقبل الشابان هذا الإختلاف، وقد كان في كل شيئ حتى بطريقة التفكير وطريقة الأكل وإسلوب المعرفة، أتقن الشابان لغة البلد المضيف تماماً وصارت لغةً مفهومة ومحكيه لهما بعدما كانت عصية وصعبة، بعد ذلك حصلا على جنسية هذا البلد وأصبحا بحكم القانون مواطنين يتبعان البلد الذي منحهما هذه التبعية، لهما ما لهما من حقوق وعليهما ما عليهما من واجبات بالنهاية صارا مواطنين جدد لذلك البلد الذي قدَم لهما المأمن والمسكن والتعليم والنواة التي منها كونا أسرتيهما وذلك بغض النظر عن أشياء اصطدما بها بادئ ذي الأمر جراء اختلاف الذوائق والعادات والمسلمات.
لنترك صديقينا جانباً ولنعرج لمايسمى بالإنتماء للمجتمع، والذي هوأحد فروع علم الإجتماع والذي يُعنى بالحس الإجتماعي ومفهوم انتماء الفرد للمجتمع من كل الزوايا والجوانب والأحداث، وكيف للفرد أن ينتمي لمجتمعه وماهي بواعث هذا الإنتماء وآلياته ، وقد بحث علماء اجتماع كُثر بهذا العلم ومنهم من كانوا فلاسفة أيضاً، ومن هؤلاء الباحثين هوعالم النفس وعالم الإجتماع الأمريكي (سيمور سارسان ) إذ تطرق لمفهوم الإنتماء للمجتمع ومفهومه، وكانت له آراء كثيرة منها أن شعور المرء بالإنتماء لمجتمعه هوبإدراك الفرد لمدى التشابه بينه وبين الآخرين في هذا المجتمع وشعور الفرد بأنه جزء من بناء يتم الإعتماد عليه لتكامل المجتمع ومدى ارتباط هذين العنصرين ببعضهما البعض (الفرد والمجتمع )والرغبه بالحفاظ على هذا الترابط بشكل وثيق .... أي أن الفرد مهما كان موقعه من هذا المجتمع فهوجزء منه لا ينتفي منه، ثم يدخل سيمور سارسان بمفاهيم فلسفية عميقة جداً فهمت شيئاً منها ولم أفهم أشياء لما فيها من عمق نفسي وفكري كبير صَعُبَ علي هضمهُ فكرياً لكن ما عرفته بأن إنتماء الفرد لمجتمعه تحكمه روابط عديدة أهمها الشعور بالمساواة وشعور بأن المجتمع يحتاج هذا الفرد أيا يكن وبأن المجتمع هوملاذ الفرد الآمن كونه ينتمي لمجموعته...
لنعود لصديقينا الأول والثاني كما عرفناهما، حيثُ كانت لهما هوايه غريبه لكنها لطيفة ألا وهي هواية تسلق الجبال والوصول لقممها، سابقاً كانا قد تحديا بعضهما البعض على تسلق أحد الجبال الشاهقة في أحدى الدول ذات التضاريس الجبلية وحددا موعدا لذلك حيث اتفقا بأن يسافران سويةً لتلك الدولة أثناء موسم الإجازات .....
وفعلاً هذا ما حدث حيث سافرا معاً، وباليوم التالي انطلقا لموقع الجبل هذا، ضربا خيمةً في قاعه وأمضياً وقتا من الزمن يدرسان طرق الوصول لقمته، ولكن كلاً على حده كونه تحدياً، بعد ذلك لبس كلاً من صديقينا ملابس مغامري تسلق الجبال ومعهما من الحبال والتروس والمعدات والمؤنه ما يكفي ثم انطلقا نحوهذه المغامرة وكل شخصٍ يسلك طريقاً مغايراً للآخر والموعد النهائي هوقمة الجبل.
وددتُ سرد تفاصيل هذه المغامرة الجميلة وما صادف هذين الصديقين من مفاجئآت ولحظات تحبس الأنفاس أثناء ابتغاءِ القمة وكيف أن أحدهما زلت قدمه أثناء الصعود وهوى نحووادٍ سحيق وكاد أن يفقد حياته لولا مهارته وخبرته بالتسلق حينما قبض على جذع شجرة صادفت طريق سقوطه للوادي إذ تشبث بالجذعِ ونجى بل أكمل من بعدها مغامرته.
ما يهم بأن كليهما وصلا القمة ولا يهم من وصل قبل الآخر لكنهما بالنهاية وصلا، والفارق الزمني بينهما بسيط ولكن المهم هنا هوالراية التي غرساها على القمة المغطاه بالثلج، حيث اعتاد المغامرون عند الوصول لقمة ما سواءً أكانت جبل أوجزيرة نائية أوحتى مركز القطبين أوسطح القمر اعتاد من يصل أن يغرس رايةً تدل عى وصول المغامر أوالعالم وعادةً ما تكون هذه الراية هي علم بلد الشخص الذي وصل لذيك المكان.
نعم وصل صاحبينا أحدهما غرس علم بلده الأم الذي أتى منه هرباً من الحرب ثم ما برح بأن استلقى تحت هذه الراية وتنفس الصعداء وأطلق صافرات وأهازيج النصر وكأنه يقول للعالم بأسره ها قد نجحت بالوصول وهاهوذا علم بلدي يرفرف حراً هنا شكراً لك ياوطني وهذا أقل ما يُهدى لك ..... صديقنا الآخر فعل نفس الشي عندما وصل القمة لكنه قام بغرس علم البلد الذي آواه ومنحه الأمان وأعطاه سبل الحياة التي افتقدها ببلده الأم وبوطنه الجديد تعلم ونشأ وكَبُر .... كلاهما تصرف بشكلٍ عفوي نابع من أعماقِ أحاسيسهما لم يتدخل أحد بقرارِهما بل كان قراراً ناجماً عن قناعة ويقين منبثق من أعماق قلبيهما ولكن كلاً رأى من منظوره الخاص ومن قناعته الخاصة.
لا يمكنني الحكم أبداً عليهما ولا يمكنني أن أصطف مع واحدٍ دون الآخر فالأنتماء للوطن والمجتمع أمرُ مقدس لا يمس ولا يُناقش فلا أقف مع هذا وأبرح الآخر، لماذا فعل الأول ذلك رغم أن الوطن الذي هرب منه ذاق فيه الويل والعذاب وريح السموم لكنه لما يزل يشعر بالإنتماء والولاءِ له، والثاني فعل ذلك عن قناعة تامة مشروعة كونه يشعر بأن مفهوم الوطن هوذاك المكان الذي يرعاك ويأمنك ويمنحك مقومات الإرتقاء والسؤدد فغرس راية وطنه الجديد.
حتى (سيمور سارسان) لا يستطع أن يفسر ما فعله صديقانا فكل الظروف والمعطيات متطابقة بينهما لكن كل واحدٍ منهم تصرف عكس الآخر، حقاً إن الإختلاف بالشيئ يمنحه دائماً البقاء.
التعليقات