كي نفهم ونعي أهمية اليوم الوطني لدى الشعوب لابد أن نتابع الأحداث التي سبقت ذلك اليوم الموعود الذي تحتفل به كل دولة بطريقتها الخاصة ، سواء عدنا الى الوراء يوم أو شهر أو سنة أو عشرات السنين وربما عقود أطول من ذلك، ومع تعدد الثورات التي تؤجج الشعوب وتأن بحالهم يصبح الأمر منطقيا لأي مراقب من بعيد أو قريب أن يرى الصورة كما تحدث.
في هذه الرواية العظيمة التي تهد من روائع الادب العالمي، لا بد من العودة إلى الوراء بسرعة شديدة عكس عقارب الساعة بمقدار ثلاثة قرون تقريباً، وتحديداً إلى العصر الذي وصفه الأديب البريطاني تشارلز ديكينز في افتتاحية روايته "قصة مدينتين" التي تسبق أحداثها الواقع بعضها بل معظمها على الاراضى المتعشطة للحرية في فرنسا.
"كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كان أمامنا كل شيء، ولم يكن أمامنا شيء. كنا جميعاً ماضين إلى الجنة مباشرةً، وكنا جميعاً ماضين إلى جهنم مباشرةً. وعلى الجملة، فقد كانت تلك الفترة أشبه ما تكون بعصرنا هذا، حتى لقد أصرّ بعض مؤرخيها الأكثر صخباً على وصفها، سواء في الصلاح أو الطلاح، بصيغ التفضيل المانعة ليس غير".
بهذه العبارات يصف ديكنز أياما صعاب وسنين عجاف تساوت فيه أسباب الحياة والموت، وصار فيها الخوف رفيقاً للأمل بالنجاة والانعتاق، حيث الحلم اليقين الذي كان ساكنا في قلوب الثوار عام 1789 انتصاراً للحرية وانتصارا للانسان وتقريراً لحقوقه المهضومة كما لم يعرفها من قبل.
قبل الثورة بسنوات عديدة، عايش الفرنسيون - تحت الحكم الملكي المتزامن مع تقلد لويس السادس عشر الحاكم الظالم الجائر الظلم بكل ألوانه، لقد ذاقوه جوعاً، وبطشاً، وقمعاً. ويذكر من الأسباب الأساسية والمباشرة لاندلاع الثورة، محاولة حكومة لويس السادس عشر سدّ العجز الاقتصادي الناتج من قراراته وممارساته اللامسؤولة، من خلال فرض مجموعة من الضرائب على عامة الشعب وهم نسبة عظيمة من السكان، في حين كان يسمح لأصحاب النفوذ والسلطة الذين لا تتجاوز نسبتهم 2 في المئة فقط، بالتهرب من سدادها ،علاوة على إقالته لرئيس وزرائه الذي أحبه الشعب فكان جزاؤه الاستبعاد عن مقاليد الحكم حسب أحداث الرواية التي يسطرها الكسندر دوماس الاب.
هذا التمايز الطبقي لم يكن في الضرائب فقط، فقد اعتمد النظام الملكي من أجل فرض سيادته وقوته على سياسة التفريق بين الطبقات الثلاث التي تألفّ منها المجتمع الفرنسي وكان لها ممثلوها في مجلس نواب ذلك االعصر وهي: (الأشراف، الإكليروس أو رجال الدين، وعامة الشعب). وكانت المناصب تمنح إلى أصحاب الطبقتين الأولى والثانية، بينما يحكم على أبناء الطبقة الثالثة بالعمل والخدمة مدى الحياة.
وأما القمع والبطش، فحدّث ولا حرج. وتكفي فكرة أن الفرنسيين عاشوا طيلة عقود تحت حكم المقصلة في مشهد مستمر من الرعب لا يحتمله بشر، لتقوم بدل الثورة ألف ثورة. إنه مشهد وصفه ديكنز في الرواية ذاتها، إذ كتب: "في شوارع باريس كانت عربات الموت تمضي في دمدمة خفيضة، غائرة، قاسية. كانت مركبات ست تحمل النبيذ اليومي إلى المقصلة. والواقع أن جميع الغيلان المفترسة الشرهة التي تخيّلها الإنسان منذ أن عُرف الخيال قد أُذيبت وأُفرغَت في هذا الصنيع المفرَد: المقصلة".
تراكم فظيع من سنوات الظلم أدّى إلى احتشاد شعبي بلغ ذروته يوم 14 يوليو عام 1789 عندما توجّه الثوار إلى سجن الباستيل وحرّروا السجناء الذين كانوا داخله. ومنذ ذلك الوقت تغيّر التاريخ، واتجه نحو تطبيق كلمات المفكّر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (حرية، مساواة، إخاء) استمرت حتى اليوم كشعار يحكم دولة فرنسا ومواطنيها من الفرنسيين وغير الفرنسيين.
"كان ذلك شيئاً مستحيلاً، شيئاً جنونياً شيئاً من الغريب أن يقال. ومع ذلك آمن به كل الناس، وتحقّق بالفعل". هذا ما أكّده المؤرخ جول ميشليه في كتابه "الثورة الفرنسية" عن ليلة سقوط الباستيل التي وصف فيها سماء باريس قائلاً: "في مساء 13 يوليو كانت سماؤها لا تزال ملبدةً بالشكوك. أما في صباح 14 يوليو فلم تعد لديها شكوك. في المساء كان هناك اضطراب وهياج غير محدد الاتجاه. أما في الصباح فكان يشع فيه صفاء رهيب".
التعليقات