عندما عبّرَ الاقتصادي هيربرت سيمون الحائز على جائزة نوبل عام 1960 عن مخاوفه من التطور التقني وطغيان الروبوتات، وتأثيرهما علي حياة البشر، لم يكن يتوقع أو يعلم أو يجوب في خياله أن هذا الطغيان قد يصل يومًا إلى الفكر والإبداع والفن، وأن يأتي يوم يُنافس فيه تطبيق ذكي كبار الفنانين العالميين، بل ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل وصل لأن يحصل على جائزة في مسابقة يُشارك فيها فنانون آخرون.
تبدأ القصة بخبر منشور في "نيويورك تايمز"، عن فوز لوحة مرسومة بواسطة تطبيق ذكي، بالجائزة الأولى في مسابقة الرسم التي يُنظمها "متحف كولورادو"، والمسابقة في الأساس للأعمال الفنية التي يصنعها البشر، لكنها في الوقت نفسه تسمح بمشاركة أعمال تحمل توقيع الذكاء الاصطناعي. لكن على ما يبدو أن القائمين على الجائزة لم يتوقعوا يومًا تلك الطفرة التي وصلت إليها الأعمال التي يصممها الكمبيوتر، ولم يتوقعوا أيضًا أن يصل الأمر، إلى أن يفوز عمل بالجائزة الأولى، والأكثر دهشة من ذلك أن بعض القائمين على الجائزة لم يكن يعلم أن لوحة مسرح أوبرا الفضاء Théâtre D"opéra Spatial، اللوحة الفائزة بالجائزة الأولى من تصميم الكمبيوتر، رغم أنها مُشاركة في قسم الفن الرقمي، لكن الأمريكي جاسون آلن، صاحب اللوحة، طبعها على القماش بواسطة طابعة رقمية، مُذيلة بتوقيعه، مما جعلها تبدو، وكأنها لوحة مرسومة، وجاسون آلن هو أيضًا مخترع التطبيق الرقمي ميد جورني (Midjourney)، هذا التطبيق الذي يستطيع أن يقرأ ما يدور في عقل الإنسان، ويُحوله إلى صور، على حد تعبير ووصف آلن نفسه.
وبعد أن أحدثت تلك الجائزة ضجة كبيرة، أعلن متحف "كولورادو"، أن تطبيق ميد جورني، لم يكن التطبيق الوحيد الذي شارك في المسابقة، بل إن هناك عددًا كبيرًا من التطبيقات الذكية المماثلة. وما أعتقده أن هذا النوع من التطبيقات، يضع البشر في منافسة غير عادلة، تمامًا، وكأن من يُشارك في هذه المسابقة ينافس مع جميع فناني العالم أمثال ليوناردو دافنشي، رمبرانت، فيرميير، فان جوخ، مونش، بابلو بيكاسو، هنري ماتيس وغيرهم، حيث جرى تخزين أعمال وأفكار وإبداعات هؤلاء الفنانين جميعًا داخل ذاكرة التطبيق، حتى لو نفى جاسون آلن ذلك، وعندما يبدأ التطبيق في قراءة ما يدور في خيال الإنسان، يستدعي التطبيق أفكارًا من خيالات فناني العالم الموجودة بالفعل في ذاكرته، ليخلق منها تكوينًا جديدًا يتلاءم مع تلك الخيالات، ليخرج في النهاية بلوحة جديدة، تقنيًا وعمليًا هي من صُنع جاسون آلن، لكن فعليًا وضمنيًا هي لوحة تحمل توقيع فناني العالم بعد أن نجح التطبيق في اقتباس خيالاتهم وأفكارهم، تمامًا وكأن التطبيق نجح في انتحال أدمغة هؤلاء الفنانين، وهو ما يُعد سطوًا ممنهجًا على أعمال هؤلاء الفنانين الذين لا نعلم من هم، وعلى الجانب الآخر هو خداع لجمهور هذا الفنان الافتراضي، وغير عادل لجميع الفنانين المُشاركين في المسابقة.
المدهش في تلك القضية أن "نيويورك تايمز" قررت الخوض في تلك القضية، بعد موجة من ردود الأفعال الغاضبة من المشاركين في مسابقة "متحف كولورادو"، والتقت جاسون آلن، الذي أكد أن التطبيق فاجأه بتلك النتيجة، مؤكدًا أن التطبيق نجح في تطوير نفسه ذاتيًا! وقال نصًا: "أحسست أن هنالك شيئًا ما شيطاني في الأمر"! قبل عدة سنوات كنت أقرأ دراسات وأبحاثًا حول وظائف المستقبل، والتي كانت تنحصر في الوظائف التي تعتمد بشكل كبير على الفكر والإبداع والابتكار، على اعتبار أن الروبوتات سوف تُسيطر فقط على الوظائف الأخرى التي قد تعتمد على التصنيع والنقل، وما شابه ذلك، وكانت هناك اتجاهات تُروج لفكرة أن الإبداع ميزة نوعية يحتكرها البشر، ومهما وصل العلم لن يستطيع أن يُنافس البشر في تلك المنطقة، فكيف يستطيع روبوت أن يكتب مقالًا؟ أو يرسم صورة؟! وما إلى ذلك من الأعمال التي تعتمد على الفكر والإبداع.
لكن على ما يبدو أن الشاعر الفرنسي شارل بودلير كان أكثر استشرافًا للمستقبل عندما تنبأ في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر، بقتل الفن عندما وصف اختراع التصوير الفوتوغرافي، بأنه "العدو القاتل للفن"، من المؤكد أنه وقتها لم يكن يعلم أنه سيأتي يوم بعد ما يقرب من قرنين، من يُردد مقولته، تعبيرًا عما يحدث للفن الآن. وقد علق أحد المحتجين على فوز آلن بالجائزة في تغريدة قائلًا "مشهد لنهاية الفن يحدث أمام أعيننا"، لكن على ما يبدو أن هؤلاء المحتجين غير متابعين لما يحدث في العالم من حولهم، فهذه ليست الواقعة الأولى التي تدعم اغتيال الفن الحقيقي لصالح الذكاء الاصطناعي، ففي عام ٢٠١٨ تم بيع بورتريه لرجل يرتدي قميصًا أسود وياقة بيضاء، باسم إدموند دي بيلامي (Edmond de Belamy) أو أسرة بلامي، والتي تعني أسرة الصديق الجيد باللغة الفرنسية.
وقد بيعت اللوحة وهي من تصميم الذكاء الاصطناعي في مزاد دار كريستيز للمزادات في نيويورك بمبلغ 432 ألف دولار. إن كنا نتحدث عن حقوق الملكية الفكرية، فإن الذكاء الاصطناعي يغتال تلك الحقوق، عندما يتم توظيفه، في المجالات الإبداعية، لأنه بكل بساطة، سوف يعتمد في مُخرجاته، على إبداعات وابتكارات آخرين، سوف يتم تخزينها في ذاكرة تلك التطبيقات مع اختلاف تخصصاتها ومجالاتها، وتوظيفها طبقًا للمستهدف من المُخرجات، وهذا اغتيال وسطو واضح للملكية الفكرية، لكنه غير مٌعلن، ولا نستطيع على سبيل المثال أن نقول هذه اللوحة مقتبسة من أعمال بيكاسو أو دافنشي أو جوخ، وغيرهم، لأنها فعليًا خليط من أفكارهم وإلهامهم وإبداعاتهم جميعًا، وكأنهم صنعوا مخًا بشريًا جديدًا يضم أدمغتهم جميعًا.
كلمة أخيرة قالها فرناندو بيسوا الشاعر والكاتب البرتغالي: لماذا الفن بهذا الجمال؟ لأن لا غاية من ورائه، ولماذا الحياة بهذا القُّبح؟ لأنها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف.
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات