أنا شاب فى غاية الضياع والحزن والألم، تحملت مالا يتحمله أحد. لم أعش لحظة سعيدة واحدة فى حياتى، لأنى ضحية أم جاهلة دمرتنى.. أعلم أن رسالتى طويلة جدا، ولكنها مجرد نقطة من بحر كبير مما أعانيه، ترددت كثيرا قبل أن أرسل إليك مأساتى، التى كتبتها بمداد من دموع ودم وخجل لو تعلمون عظيم، ولأنه لا يمكننى قول ذلك لأحد، ليس فقط بسبب خجلى من وقائع مأساتى التى تشعرنى بالعار، وإنما أيضا لأنه لا أحد يسمعنى أصلا، فليس لى صديق أو قريب .كل الأبواب مغلقة فى وجهى لم أجد إلا باب بريد الجمعة أبث فيه همومى، لعلى أجد ضوءا فى نهاية النفق!
ظللت لوحدى تائها فى دائرة الضياع والألم 35 عاما، فمنذ طفولتى ذقت الأمرين من اقرب الناس إلى ، فقد تيقنت أن والدتى تكرهنى كرها شديدا وتفضل أخواتى البنات على. فى البداية لم اعرف لماذا؟ بعد ذلك بدأت أدرك أن السبب يكمن فى غريزتها التى تسيطر على تفكيرها وتعتبر أساس كل شيء فى حياتها ولم تكن ترغب فى انجاب ولد. أحكى لك مأساتى ويقتلنى الشعور بالعار، ولكن ماذا افعل بعد أن ضاع عمرى بلا جدوى، فقد مررت بمواقف كثيرة مؤلمة جدا، ولم يعد بمقدورى كتمانها فى قلبى الذى يكاد ينفطر، سأكتفى بذكر أمثلة قليلة منها.
كانت (والدتى الجاهلة) تخرج يوميا بعد ذهاب والدى إلى عمله، وتظل ساعات كثيرة خارج المنزل وتعود قبيل عودته. ورأيتها أكثر من مرة تقف مع الرجال فى الشوارع وتضحك معهم. وأنا فى سن الخامسة كانت تزورنا صديقة لأمى، وتسمعنى أسفل الكلام وتلمس مناطق حساسة من جسمى، وأنا أبكى من ذلك بينما والدتى تضحك من أفعال هذه المرأة الجاهلة. كان الهاجس الغريزى مسيطرا عليها.
جميع نساء الحى الذى أعيش فيه متعلمات حرصن على تربية أبنائهن إلا أمى التى كانت عديمة الأخلاق جامدة القلب، تقوم بأفعال تثير الضحك والسخرية فيسحقنى الخجل.
والدتى هذه التى لاتستحق هذه الصفة، تسببت فى إصابتى بأزمة صدرية مزمنة، فعندما كان عمرى أربع سنوات أخذتنى معها لشراء طلبات للمنزل، وطلبت منها أن تشترى لى قطعة حلوى، فانهالت على ضربا مبرحا وظللت اصرخ وابكى حتى أصبت بكرشة نفس طويلة ومن يومها أنا مريض بالأزمة الصدرية وقد دخلت المستشفى مئات المرات وكنت أبقى فترات طويلة على جهاز التنفس الصناعى، ذلك كان يحدث اسبوعيا فكنت أتألم ألما شديدا يسلبنى القدرة على النوم أو الأكل أو المشى. وأصبحت منذ نعومة أظافرى مثل المشلول، لأن أقل مجهود يسبب لى الأزمة. وفى المدرسة الابتدائية والإعدادية كانت تدمع عيناى عندما أرى زملائى يلعبون الكرة، ويمرحون، وأنا الوحيد الذى لايلعب مثلهم بسبب مرضى.
فكنت معروفا فى مدرستى بلقب (العيان)، لأنى كنت أحضر يومين واتغيب أسبوعا أو أكثر. لذا عانيت كثيرا حتى أكملت سنوات تعليمى.
وتسبب مرضى وما اخذته من أدوية كثيرة فى إصابتى بالضعف العام فلا أستطيع بذل أقل مجهود. وأصبح شعرى يتساقط ويشيب وأنا فى السادسة عشرة. عشت فى هذه الأجواء المسمومة مع أمى وأخواتى البنات الاربع اللاتى يكرهننى جدا، منذ الصغر كن يسخرن من مرضى. ولا يعيرننى اى اهتمام الى ان تزوجن، فكل واحدة من اخواتى البنات عاشقة لزوجها فقط كما ربتهن أمهن، حيث كانت والدتى ومازالت إلى الآن تفضلهن على وكانت تعطيهن النقود ليشترين بها أدوات التجميل، بينما تضن على بالقليل.وكانت دائما تعلم بناتها حب الرجل الزوج وكره الأخ، فمثلا كانت تقول لهن:( الست لو خارجة عارية من الحمام وأمامها زوجها وأخوها فإنها تغطى نفسها بثياب زوجها).وهى لاتصلى ولا تصوم. (فالحياة عندها رجال فقط).
وفى هذه الغاية لايلزمها دين ولا علم، فهى تعشق بناتها لأنهن يتزوجن رجالا وتكره الابن لأنه لن يأتى لها برجل ولهذا زوجت البنات، ولم تزوج الولد.
سمعت والدتى فى المستشفى، وكنت فى المرحلة الاعدادية، تسأل امرأة أخرى كانت بصحبة ابنتها: هل عندك بنات أخرى، اجابت المرأة : عندى بنتان غيرها. فضحكت والدتى وقالت: (حيجيبوا لك 3 رجالة ياحجة) .
والنتيجة ان اخواتى يكرهننى هن وأزواجهن كراهية شديدة ولايتمنين لى غير الشر. ولا تكلمنى أى واحدة منهن إطلاقا. أما والدى فقد كان ضعيف الشخصية ويخضع لسيطرة أمى.لم يشعرنى بالحنان بل كان يتضايق عندما تنتابنى الأزمة قبل الفجر
والتى تتطلب الذهاب إلى المستشفى فورا، فيقول لأمي: (نسيبه لحد ما يفطس ونرتاح بقى من القرف ده) فترد والدتي: (كل مرة تقول الكلام ده ومش بتنفذه))!!.
كان الشغل الشاغل دائما لوالدتى هو أن تزوج بناتها الأربع لأى أحد وبالفعل كان يتردد ابن خال والدى وأبناؤه دائما على بيتنا، واقنع والدتى بأن تزوج أختى الكبيرة لأخيه، وكان يأتى إلى المنزل فى عدم وجود والدى.
وبعد أن تمت الخطبة كان يأتى خطيب أختى يوميا عقب خروج والدى إلى عمله وينفرد مع اختى لوقت طويل بعلم والدتى، وقد حققت هدفها بتزويج اخواتى، وأصبحت كل واحدة منهن لا تهتم إلا بمصلحة زوجها وأولادها فقط. اما الأخ فيولع بجاز، كما قالوها لى فى وجهى ذات يوم.
هكذا يا سيدى نشأت فى بيئة فاسدة جدا، دمرتنى، فأنا مريض ولدى اكتئاب حاد وألم نفسى شديد ولم اشعر يوما واحدا فى حياتى بأنى أعيش مثل بقية الناس، فليس لى أحد يهتم بأمرى، ولم أفرح بأى عيد طوال حياتى ولم يقل لى أحد كل عام وأنتم بخير.أمشى فى الشارع تائها شاردا متمنيا ألا يرانى أحد وأشعر بأننى كائن غريب لا قيمة له.
سيدى ضاعت منى أجمل أيام عمرى. من يصغرنى بعشر سنوات تزوج وأنجب ويعيش حياة كريمة وأنا ضائع ومريض ووحيد. تمنيت كثيرا أن أعيش فى ملجأ للأيتام لأجد الرعاية والاهتمام بدلا من المرض والوحدة والذل الذى أعيش فيهم منذ طفولتى. .فأنا أفتقد كل شيء، أفتقد الأب والأم والأخ والأخت والزوجة والأبناء والصديق والقريب.
ولا استطيع العمل، حياتى ليل لم يطلع له نهار حتى أصبحت يائسا بائسا تعيسا، فكرت فى الانتحار كثيرا ولكن خوفى من الله عز وجل منعنى .. فماذا أفعل؟؟ إلى متى سأظل هكذا ضائعا منكراً وحيدا منكسرا؟
قبل ردى على هذه الرسالة المؤلمة،
اعترف بأنى شخصيا ترددت كثيرا فى نشرها بسبب تلامسها مع جوانب فى غاية الحساسية، تعودنا على تجنب تناولها على الملأ، ولكنى اقدمت على نشرها لسببين: الأول ان كل الأبواب موصدة فى وجه كاتبها، حيث لا صديق له ولا قريب يتحدث معه أصلا، والثانى أنها تمثل جرس إنذار خطير للمقبلين على الزواج، لذا فإن ردى ينطوى على نقطتين:
الأولى تتعلق بكاتب هذه الرسالة، وأقول له إننى أتعاطف كثيرا معك، لأنك ليس لك ذنب فى كل هذا العذاب، وأشفق عليك من مصيبتك فى اقرب الناس إليك التى جعلتك -على خلاف تعاليم الدين- تكره أحق الناس بصحبتك: ( أمك ثم أمك ثم أمك) وفق الحديث النبوى، بل وضعتك على نقيض الفطرة والتراث النفسى الذى يؤكد حب الابن لأمه فيما يعرف بعقدة «أوديب».
والمشكلة ليست فى كون والدتك غير متعلمة، فكثير من الامهات غير المتعلمات أنجبن روادا فى الفكر والعلم والثقافة، وإنما تكمن المشكلة فى الاضطراب النفسى الذى تعانيه والدتك، وأظن انك لم تنج منه أنت ايضا، لذلك اصارحك بأن رسالتك المطولة (17 صفحة) والتى اختصرت منها تفاصيل عديدة تأبى سياسة التحرير نشرها ولا تتسع المساحة لها، تتضمن الكثير من الأحداث التى اظن انها غير دقيقة، ليس من حيث صدق حدوثها، ولكن بسبب رؤيتك المضطربة لها، وإن كان الكثير منها يكفى لإدانة والدتك وفق روايتك، غير أنى لم اسمع منها ومن ثم تظل الحقيقة نسبية ومن وجهة نظر واحدة. بل انها تشى بنوع من الاضطراب النفسى لديك، لا اعفى مسئولية والدتك عن جانب منه، وقد ينتج عن هذا الاضطراب خيالات وضلالات وهلاوس ربما أثرت على تصورك لأفعال والدتك.
كنت اتمنى ان تجد أحد أقاربك (عم، خال..الخ) تلجأ إليه ليساعدك فى هذه المحنة؟ ولكن اذا لم يكن لديك أحد، فهناك خطوات متكاملة اتمنى أن تفضى إلى بداية حقيقية للعلاج :
أولا : قبل كل شئ ان تلجأ الى الله بيقين قوى وتدعوه ان ينجيك ويشفيك وانت واثق انه تعالى قادر على كل شئ، لأن قوة إيمانك وثقتك فى ربك ستعينك كثيرا على مواجهة المشكلة.
ثانيا: أن تنتقل للسكن فى مكان بعيد تماما عن محيط أسرتك، لتبدأ حياة جديدة بشكل متوازن، وبذلك تختفى من أمامك رموز هذا المشهد الذى تسبب لك فى كل العذاب الذى تعانيه. لأن استمرار بقائك فى هذا المحيط قد يؤدى إلى تفاقم معاناتك.
ثالثا: أن تبحث عن عمل، ومهما كانت قواك ضعيفة فستجد ما يناسبك، كما يمكنك أن تعمل فى إحدى دور الرعاية التى تقيمها بعض المؤسسات الخيرية وقد توفر مكانا للسكن أو المبيت. ولا تستسلم لإحساسك بالضعف ولا تستجب لدواعى اليأس وعليك تحدى كل هذه المعوقات، لأنه بداخل كل منا قدرات على الاحتمال لن نتعرف عليها إلا عند التحدى، عليك ان تبدأ الرحلة متوكلا على الله واثقا فى النجاح، فيقول عالم النفس الأمريكى وليم جيمس (1842-1910): « ان مجرد احتمال النجاح يسبغ على الكفاح نبلا خاصا ويجعله جديرا بأن نبذل كل ما نملك من جهد وطاقة فيه». يا سيدى: لدينا قدرات بداخلنا يستفزها التحدى ويستنفر طاقتنا لكى ننجز أهدافنا، لذا أنصحك بأن تقدم على ما تتصور انك تعجز عن فعله، متسلحا بإرادتك وكفاحك النبيل الذى ابقى عليك حتى هذه اللحظة، متحديا كل أسباب اليأس والبؤس التى واجهتك على مدى 35 عاما، حتى تنال ما تستحقه من الحياة.
نعم من حقك أن تتزوج وتكوين أسرة تعوضك عن الوحدة والاغتراب النفسى، ولكن انصحك بألا تفكر فى ذلك قبل أن تعود إلى الحياة الطبيعية وتعالج العوار الذى لحق بك نفسيا، وهذا يتطلب استشارة طبيب نفسى ماهر، لأنك لو تزوجت قبل ذلك فسوف يؤثر هذا الاضطراب على أولادك.
والنقطة الثانية تتمثل فى الدرس الآخر الذى تتضمنه هذه الرسالة، والموجه للمقبلين على الزواج، ويكمن فى ضرورة الانتباه إلى جانب مهم فى مؤهلات الزواج، وهو الصحة النفسية، فمن يعانى مشكلة أو اضطرابا نفسيا عليه أن يعالجه قبل الشروع فى الزواج حتى لا ينتج عنه مشاكل أصعب لدى أبنائه. إن تأسيس الأسرة لا يتوقف على الأمور المادية فقط، وإنما يتطلب تأهيلا نفسيا واجتماعيا لبناء الأسرة وقيادتها. «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول»، كما جاء فى الحديث النبوى، والضياع هنا ليس فقط بسبب التقصير المادى وإنما قد يكون نتيجة اضطراب نفسى كما فى هذه الحالة.
التعليقات